خضراء أجمل من ابتسامة الموناليزا
غالية خوجة
تزدحم لحظات التلبية في أرجاء الكون وهي تصعد من مدار الأرض، ترفرف بين السماء والدعوات مع الحمامات والنوايا الطاهرات، وتشرق في قلوب السوريين أملاً جديداً وهم يدبّرون أمور حياتهم اليومية، بين التسوق وصناعة حلوى العيد في البيت وزيارة المقابر، وتدوير الملابس، والذهاب إلى الساحات لإطعام القطط، أو نثر فتات الخبز في مكان ما لإطعام الحمام، أو التجول بحثاً عن محتاج.
وتظلّ ابتسامتهم الخضراء الأجمل من ابتسامة موناليزا ليوناردو دافنشي تتلألأ على وجوههم وقلوبهم وبين البيوت والأشجار والحيطان، تتلألأ على شفاه البسطاء التائهين بين الشوارع والشتات والحدائق العامة والذكريات، لأنها ابتسامة صابرة تستعيد بالتدريج الأمان والسلام والمحبة وكل ما افتقدته في الحرب الظلامية على هذا الوطن الصامد الشامخ المنتصر.
نرى هذه الابتسامة بتعابيرها التي تجمع الفرح والحزن معاً في أغلب الوجوه التي نصادفها، فمنها من ينتظر أن يعود أولاده من الغربة، ومنهم من ينتظر أن يرسل له أولاده ما يعيله من مصاريف لا تعوّضه عن ألم الغربة والانتظار، ومنهم العجوز، أم جانو، التي تحبو بخطواتها وهي تحمل كيسين، في أحدهما خبز أعطاها إياه أحد ما – كما أخبرتني – وتعيش وحيدة لأن أولادها اغتربوا لكنهم نادراً ما يتواصلون معها، وبابتسامة متفائلة، أضافت: “الله ما بيقطع” يا ابنتي، لأن شعبنا طيب ومساعد.
لهذا الشعب الطيب حكاية تأريخية أسطورية لن تنسى كيف ضحّى بروحه وماله من أجل أن يبقى هذا الوطن رمزاً للمحبة والنصر، ورغم أنه كان أضحية جماعية لجميع الأعداء الكونيين إلاّ أنه شعب ضحّى ويضحي بمكارم أخلاق من أجل انتمائه وهويته وحضارته ومستقبله، وسيظلّ يبتسم تلك الابتسامة الخضراء لأنها لون رمزه الأغلى، وعلَمه الأجمل، وأرضه الطيبة مثله تماماً، مثل ابتسامة طفلة في الخامسة من عمرها تلفّ العلم على رقبتها وتنادي: بسكويت لا لتأكله، بل لتبيعه، وتضحك معي بسعادة!.
مثل ابتسامة الصبايا والشباب والطالبات والطلاب المدركين لأهمية وطنهم على مرّ العصور، وما أورثهم إيّاه من “ألجينات- صبغيات” حضارية يفخرون بالانتساب إليها، ويصرّون على توظيف عقولهم وعلومهم وفنونهم وإنسانيتهم وعبقريتهم في متابعة البناء بمحبة تعرف أنّ الصبر مع الأمل والعمل مفتاح النصر.
ولمن يتأمّل قليلاً بين الأزقة القديمة في حلب ودمشق وتدمر وأرواد وجبلة واللاذقية وطرطوس والرقة والحسكة والقنيطرة وحمص وبقية المحافظات والأرياف، أن يجد تلك الابتسامة ترتسم خضراء على الجدران والموجات، على قلعة حلب وقوس النصر راسمة ابتسامة الشهداء المنضفرة مع ابتسامة الباحث خالد الأسعد والأطباء والعلماء والإعلاميين والأدباء الذين استهدفهم الإرهاب، وتتدلّى بفخر ياسميناً ووروداً وآمالاً في كل مكان.
ولابتسامتنا الفوّاحة نغماتها المشعّة مع كل شمس، ولها موسيقاها الناهضة من أنين السنابل والزيتون والغار، لها تشكيلاتها الرمزية والتجريدية ومرحلتها الخضراء التي لم يعرفها بيكاسو بين مراحله المختلفة من تكعيبية وحمراء وزرقاء، ولها أغنيتها الخاصة التي لم تردّدها إلاّ قلوب الشهداء وجرحى الوطن والأمهات والآباء مع وطننا قلب العروبة.
ابتسامتنا المشرقة من حزنٍ معتّق تنمّ عن ذكاء ملفت تبعاً لمختلف العلوم ومنها النفسية والسيميائية، وكأنها ابتسامة تهزأ بالظلمات وتختزن المستقبل في جرار الأجداد وآثارهم والتي ليس آخرها تلك اللوحة الفسيفسائية المكتشفة حديثاً في الرستن بين بوسيدون والأمازونيات والقناطير، والتي كانت جزءاً من حرب طروادة، أو ملحمة الألياذة والأوديسا، إنها أقرب إلى القيثارة السورية التي أنشد عليها هوميروس أجمل الألحان الملحمية، ولربما كانت ابتسامة هوميروس وآخيل خضراء أيضاً.
دامت ابتسامتكم خضراء قراءنا أينما كنتم وكيفما كنتم، وعيد أضحى مبارك.