شاعرة الكلمة التي قهرت الموت
سلوى عباس
منذ الطفولة وملامح الحلم تنسج خيوطها لتغزل قصيدة موشاة بماء القلب وشفيف الروح، حيث الموهبة التي صقلت التجربة فيما بعد لتخطّ الخطوة الأولى في مشوار الإبداع الذي كان يختمر في خوابي الوجدان، وليبشّر بشاعرة تتمتع بصوت أنثوي تبدّى في ثنايا كلمات حملتها قصيدتها الأولى، حيث بدأت الشاعرة آنا أخماتوفا كتابة الشعر في الثانية عشرة من عمرها، وأصبحت شاعرة معروفة في وطنها روسيا بعد أن أصدرت مجموعتيها الشعريتين “مساء، وإكليل الورد” وكانت آنئذ في العشرين من عمرها. فسجلت في شعرها الوجداني الباكر لحظات التفاعل الإنساني في حالات الشدة الحادة.
القصيدة بالنسبة لأخماتوفا شكل من أشكال إعادة الارتباط بالزمن الذي حاول أن يفصلها عنه الآخرون، وقد استطاعت أن تمتلك من خلال القصيدة وطناً لم تتخلَّ عنه، ولم يمتلكه شاعر مثلها، وطن يجد رمزه في دوائر وجود ثلاث: في البيت الذي كانت تغادره، أو يجب عليها أن تغادره دائماً، (وقد تحول بيتها إلى متحف)، وفي المدينة التي توحدت معها تقريباً، وفي الزمن أيضاً حتى مراحله الأكثر قسوة عليها.
شكلت آنا أخماتوفا لغة شعرية قائمة على إيقاعات رشيقة ومرنة، وقافية ثرية وخاصة على مفردات مجردة وشفافة؛ فقد خاطبت وجدان القارئ، وهذه اللغة الدافئة هي التي اجتذبته ليغوص في الموضوع، فمن وجهة نظرها أن الكتابة بأسلوب شاعري يخاطب الوجدان والعاطفة والإحساس يجعلها أقرب من القراء، لأن القارئ بحاجة لهذا الدفء في اللغة بحكم ظروف الحياة الصعبة آنذاك، والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية القاسية التي كانت تعيشها وأبناء وطنها، ليبقى صوتها متفرداً أصيلاً وساحراً.
آمنت أخماتوفا بالكتابة كحالة من حالات النضال، ونوع من التعبير عن الصراع الداخلي، وإثبات الوجود، منطلقة من قناعتها بأنها قد لا تستطيع أن تغيّر مجتمعاً بشعرها، لكنها قد تستطيع عبره أن تغيّر ما بداخلها وأعماقها، حتى تستطيع التفكير بتغيير المحيط، وتسلّم بقناعة أن أي قصيدة تنظمها إذا لم تتأثر بها وتتغيّر من خلالها، لا تصل إلى المتلقي، ولا تحدث أي ردة فعل، فالمسألة تنبع من الشاعر ذاته.
ويتجلى الكاتب لدى أخماتوفا بأنه شاهد على العصر، وضمير هذا العصر، تقول: “حتى أكون شاهدة على العصر يجب أن أكون أولاً شاهدة على نصي، لأنه لديّ مشروع سأنجزه، قصيدة لها أسلوبها المختلف، والرؤية العميقة والبعيدة.
في عام 1964 منحت جائزة “انتوتارومينو” الإيطالية التي اعتبرتها أحد أبرز الوجوه الشعرية في القرن العشرين، وأعيد طبع العديد من دواوينها والمختارات الشعرية المترجمة للإيطالية والفرنسية والإسبانية، وقد استقبلها القراء باهتمام وإعجاب متجددين، لما تتميز به أخماتوفا من شهرة عالمية واسعة وصوت شعري مفعم بالغنائية ومطرز بالمفردات المتداولة، واستشعار التفاصيل الإنسانية اليومية البسيطة.
بعد ذلك وبالتعاون مع القنصلية الروسية في مدينة تارومينو والمنظمات الاجتماعية الإيطالية، عادت هذه الجائزة مرة أخرى إلى الحياة، وتمّ تسميتها بجائزة أخماتوفا العالمية للشعر، وتقرّر منحها للنساء الأديبات فقط اللواتي يساهمن في “التجديد الروحي للمجتمع والتناغم الدولي”. وفي ذكراها المئوية أعلنت اليونسكو عام 1989 عام أخماتوفا على الصعيد الدولي تكريماً لها.
كانت تستمد قوتها من متانة صلتها بشعبها، ورغم أنها كانت هي ومواطنيها ضحية لحملات تشنّ من قبل تروتسكي وستالين، إلا أنها تحوّلت إلى شاهد على رعب تلك الفترة ولم تتخلَّ عن التصاقها بشعبها وتمسكها بوطنيتها.
تعتبر قصيدتها “قداس جنائزي” من أروع ما كتب من شعر بالروسية إن لم تكن واحدة من أهم قصائد القرن العشرين. صرخة ألم وحزن لمبدعة ثورية وأم مقهورة تعرّض ولدها للاعتقال عدة مرات، وطردت من عضوية اتحاد الكتّاب السوفييت، وحظرت السلطات السوفيتية نشر أعمالها لمدة عشرين عاماً.
كانت مناصرة للمرأة وقد كانت أشعارها عن نضالها ومقاومتها للظلم والاضطهاد منتشرة آنذاك على كل لسان إذ قالت:
“المرأة التي يذهب رجالها اليوم إلى الجبهة
سوف تصهر الحزن وتحيله إلى قوة لا تقهر”.
توفيت أخماتوفا سنة 1966 عن عمر ناهز الـ 77 عاماً تاركة وراءها صندوقاً صغيراً ضمّ بعض مراسلاتها ويومياتها، وإرثاً شعرياً عذباً يضاف إلى روائع الأدب الروسي الذي أتحف العالم بإبداع خالد بالحكمة والجمال والشاعرية، وعقب وفاتها كتب الكاتب السوفياتي كورني تشوكوفسكي عنها قائلاً: “لا دهشة أنها توفيت بعد كل هذه المحن الصعبة، المدهش هو ذلك العناد الذي عاشت فيه بيننا، سامية فخورة عطوفة وعصيّة على الموت”.
وقال جوزف برودسكي: “يكفيها مجداً حينما سئل أوسيب مندلشتام عن مكانته الشعرية في تاريخ الشعر الروسي” أجاب: “يكفي إنني أعيش في زمن آنـا آخماتـوفا”!.