المسرح القديم وخاصية انتقال الصوت في العمارة التراثية
آصف إبراهيم
أول مرة زرت فيها مسرح بصرى التاريخي الذي كان يقام عليه مهرجان بصرى العريق للفنون الشعبية، خطر في ذهني سؤال: كيف للمتفرج أن يسمع ما يقال في أرضية المسرح من حوار وكلام خلال العروض الفنية والمسرحية التي كانت تقام عليه في تلك الحقبة التاريخية من الزمن، ونحن اليوم نستخدم التقنيات الإلكترونية والكهربائية لإيصال الصوت وتوزيعه بين كل جوانبه،
على الرغم من كون المسرح مفتوحاً في الهواء الطلق، ويتسع لأكثر من عشرة آلاف متفرج، يكفي همهمة بسيطة من كل واحد منهم أو هبة ريح خفيفة أن تضيّع على المتفرج إدراك ما يصل إليه من شذرات كلام؟
لكن من يبحث عن معرفة تلك التقنية العبقرية في فهم حركة الصوت وارتداده يدرك أن المهندسين المعماريين القدماء وضعوا في حسبانهم عند تصميم تلك الصروح الفنية والجماهيرية كلّ شيء، بحيث يصل الصوت إلى المتفرج الجالس في أعلى درجة من المسرح بوضوح، فقد اشتهرت تلك المسارح بامتلاكها تقنيات صوتية مذهلة تمكّن هذا الهيكل من إزالة الأصوات منخفضة المستوى مثل صوت همهمة المتفرجين أو صوت الرياح بينما يحافظ على الأصوات البشرية الصادرة من مركز المسرح بوضوح. ويعتقد العلماء أن الكثير من هذه الميزات يتعلق بتصميم الدرجات وطريقة تفاعلها مع الموجات الصوتية.
فعندما تصادف الموجة الصوتية سطحاً ما، غالباً ما تنتشر في اتجاهات مختلفة لأنها تنعكس عن السطح وتمرّ في عملية تُسمّى الانحراف. قد يرتد جزء من الموجة عن السطح ويصطدم بجزء آخر من الموجة نفسها، ويلغي نفسه في اتجاه معين ولكن في اتجاهات أخرى، قد تصطف الموجات الصوتية المنعكسة بطريقة تعزّز بعضها البعض، وبالتالي يضخم الصدى الصوت في اتجاهات معينة تعتمد الطريقة التي يتمّ بها ذلك بالضبط على الشكل الهندسي للعقبات التي تواجه الصوت.
وقد أدرك مهندس الصوتيات الذي درس التأثير لأول مرة في أواخر التسعينيات، (ديفيد لوبمان)، أن الأمر يتعلق بطريقة انحراف الصوت عن الدرجات. وفي عام 2004، استخدم الباحثون في بلجيكا المحاكاة الحاسوبية لإظهار ما يجري بالضبط من خلال محاكاة صوت التصفيق الذي يتردّد صداه من الهرم، وجدوا أنه، تماماً مثل المسرح الإغريقي، تعكس الدرجات ترددات أعلى من الترددات المنخفضة.
وحول هذا الموضوع كان للفنان رامي درويش المدرّس في كلية التربية الموسيقية بجامعة البعث وقفة خلال محاضرته التي ألقاها في رابطة الخريجين الجامعيين بعنوان: “خاصية انتقال الصوت في العمارة التراثية”، وفيها يرى أن الصوت والموسيقا عبارة عن اهتزاز ينتقل إلى الإنسان عبر الهواء، وكان القدماء يخطّطون مسارحهم وفق دراسة هندسية فائقة الدقة تقوم على دراسة الأصوات دراسة خاصة، فالمكان إذا لم يكن مدروساً صوتياً بشكل جيد ستحدث مشكلة تسبّب إجهادات على الجهاز العصبي.
المعماري الإغريقي على سبيل المثال بنى أول مدرج يتسع لـ 17 ألف متفرج يسمعون العازف أو الممثل بدقة عالية، فقد قام بفلترة آلية الصوت لأن أي وسط مادي يعتبر ناقلاً للصوت، والمعماري الإغريقي بنى أرضية المسرح من حجر الصوان وهي صخور كتيمة ينتقل الصوت عبر الحجر القاسي جيداً، وبدا ذلك حين صمّموا المدرجات التي تعتمد على مركز وبؤرة منصة المسرح، حيث يعتبر الحجر القاسي الذي استخدم في أرضية المسرح هو الناقل الأولي للصوت، حيث وفر المعمار بذلك آلية جديدة في نقل صوت الجالس على المسرح إلى جميع الحضور في الوقت الذي لا يمكن انتقال صوت الجمهور بشكل معاكس إلى المسرح، وأشار درويش إلى أن المدرج اسمه مشعاع صوتي لأن وظيفته تجميع الإشعاعات الصوتية بحيث يسمع الجميع.
وتحدث أيضاً، عن مصطلح التبئير وهو تحويل الأصوات إلى بؤرة تنتقل من المسرح الذي يقف عليه الممثلون أو العازفون أو المغنون أو بؤرة الحدث إلى الجمهور الجالس في منطقة التلقي على المدرج المصمّم لهذه الغاية.
وجاء الرومان بعد الإغريق ليأخذوا ذات التكنيك في انتقال الصوت، وأضافوا إليه المحاريب، التي وجدوها في بيوت العبادة (المساجد والكنائس)، حيث توضع المحاريب خلف المصلين كي تعكس الصوت، وبذلك يتمّ توجيه الصوت عبر المحراب، واستفاد المعماريون من هذه المحاريب في تصميم مدرج بصرى الذي يتسع لـ17 ألف متفرج يسمعون كلّ ما يجري على المسرح، واستفادوا منها في مسرح تدمر الأثري أيضاً حيث أجرى المحاضر على هذين المسرحين أبحاثه، وقال: إن أبسط استثمار للصوت هو سماعة الطبيب التي استخدم فيها أسلوب التبئير.
وقال في نهاية محاضرته: إن العالم استخدم الديناميت في إزالة الأبنية والآن يستخدم الصوت في إزالة الأبنية القديمة من خلال الصوت وتبئيره باتجاه الهدف المراد إزالته، وأضاف أن هذه التقنية تعتبر أهم تقنية في هدم المباني القديمة عبر الأمواج الصوتية.