“الشيخ إمام” الرجل الذي غنى مصر.. كما لم يفعل أحد!
تعرفنا عليه زمن “الكاسيت”، لم يكن حينها حتى ااـ “CD” موجودا، وكانت أغانيه تُنسخ وتُباع على بسطات بيع “الكاسيت” التي كانت قائمة في منطقة البرامكة، وكأنها منشورات سرية! حينها كان الشيخ إمام (1918-1995) نجما رفيع الشأن عند جمهور “المثقفين”، وكانت أغانيه هي السائدة في اللقاءات والسهرات والحفلات الخاصة بهذه الفئة، وأشهرها “أنا توب عن حبك أنا”، وهي من أجمل الأغاني العربية على مستوى الكلام واللحن والأداء، وأغنية “البحر بيضحك ليه” وهي أغنية عاطفية النوع ثورية المزاج، أما الأداء الذي قدمه فيها فأقل ما يوصف به “المبهر”، ولا بد من “سايس حصانك”، و”حلو المراكب”، وغيرها من أغاني إمام البديعة.
يكمل اليوم الشيخ إمام عامه الخامس بعد المئة – هذا على حساب “الروزنامة” – منها 77 عاما عاشها الرجل، المولود في قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة المصرية، بحلوها ومرها، رغم أن كأس “مرها” كان مترعا. وبالعودة إلى تفاصيل حياته منذ طفولته، فإن عنوانا واحدا يمكن أن يناسبها، وهو “القسوة”، ففي عامه الأول فقد بصره، وعاش كفيفا بين أقرانه الذين كانوا يسخرون من مصيبته، هذا عدا عن قسوة والده، وعصاه الغليظة التي كادت تكسر عظامه، ذلك أنه “ارتكب” فعلا لا يمكن التساهل معه!
الفتى المتجه صوب خياله، كبديل عن البصر، سمع وهو في بيته أغنيه تصدح من بيت قريب، فنزلت على قلبه الموسيقى كالعسل، ما جعله “يرتكب” موبقة، بل مهلكة لا تغتفر، حسب فتوى دينية تحظر الاستماع إلى الموسيقى! إمام كان يحب الاستماع إلى الراديو، الذي يؤنس وحدته المضاعفة بغياب البصر دون رجعة؛ فقد قامت الدنيا ولم تقعد فوق رأسه لهذا السبب، وكاد أن يفارق الحياة تحت وطأة ضربات العصا الغليظة، التي راح والده ينهال بها عليه بكل قوته، وكأنه يريد قتله! دون أن تكون يد أمه موجودة لترفع عنه القسوة. لقد ماتت السيدة التي كانت تعوضه عن قسوة الدينا، بحنانها الذي يسيل دموعا ساخنة. كان الفتى يشعر بها على وجهه، لكنه كان يصمت ويلوذ بحضنها وكأنه المكان الوحيد في العالم، فلما ماتت صار بلا مكان، حتى أنه لم يستطع أن يشارك في جنازتها، فما كان منه إلا أن غادر القرية دون رجعة، وهنا بدأت نقطة التحول الأولى في حياته.
على يد الشيخ درويش الحريري (1881-1957)، وهو ملحن وأستاذ مصري التقاه صدفة أثناء زيارته لصديقه، تعلم الشاب ما لم يكن يعلم، فلقد اصطحب الشيخ الحريري تلميذه في جلسات الإنشاد والطرب، فذاع صيته وتعرف على كبار المطربين والمقرئين، أمثال زكريا أحمد والشيخ محمود صبح، وبدأت حياة الشيخ في التحسن.
أما التحول الأهم والأخطر والأكثر زخما، فكان تعلمه عزف العود، وتعرفه على العديد من شعراء “المحكية” الكبار في مصر، ومنهم سيد حجاب ونجيب سرور وتوفيق زياد ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد وآدم فتحى وفرغلى العربي، وغيرهم. ثم بدأ بتلحين بعض المقطوعات الشعرية، وقدم للعالم مجموعة بديعة من الأغاني العذبة، التي تجاوزت حدود مصر، ووصلت بلاد الشام واليمن، وصار للشيخ إمام صولة وجولة بين أهل الصحافة والثقافة، والأهم أنه صار نجما، لا وفق مفهوم نجومية اليوم، القائمة على التسليع الرخيص للفنان، بل وفق نجومية الأمس، التي كان فيها الصوت والأداء هما من يصنعا الفرق.
واحدة من الأحداث التي وقعت للشيخ إمام – لكنها لا تروى – أنه دخل السجن لسبب غير معروف، وحينها كان مؤذنا ومنشدا دينيا. وحدث أن قام شخص من جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر بالاعتداء على ابنة إمام، وذلك انتقاما من والدها الذي صار مغنيا وملحنا، وهذه من الكبائر عند الجماعة، فقرروا طعنه بأعز ما لديه، ابنته، فما كان منه إلا أن خلع زي المؤذن والمنشد، وقرر أنه سيصبح مطربا، وهذا كان رده الكبير على ما لحق به من ظلم.
شكل إمام محمد أحمد عيسى، مع الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، ثنائيا فنيا خارقا، وقدما للجمهور مجموعة من الأغاني البديعة، منها الساخر السياسي، مثل: “شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر غيت”، وهي أغنية تهاجم بشدة زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لمصر، خصوصا وأن بلاده حاولت أن تحتل مصر؛ ومن أغانيهما المشتركة أيضا أغنية “مصر يمة يا بهية”، وفيها من العذوبة والرقة والوطنية ما يثقل على الأسماع فعلا لكثافة المعاني والصور، مترافقة مع اللحن المنساب كمطر ليلة خريف وضعه إمام من قلبه قبل أن يكون من خياله، وغناه بصوت جميل وأداء يُدرس فعلا لبراعته وتمكنه وقدرته على التحكم في مستوى الصوت، وفي نزول السلم الموسيقي وطلوعه أيضا؛ ويقال أن صوته وشعبيته أفقد أم كلثوم اتزانها، بعد أن قررت تهميشه ومحاربته أيضا!
واحدة من المراحل المهمة في حياة الشيخ أمام تمثلت في تبنيه للقضية الفلسطينية فنيا، فقدم: “يا فلسطينية”، و”فلسطين دولة بناها الكفاح”.
غنى الشيخ إمام للناس ما يحبون ويشعرون، وكان بينهم، ومنهم من شاركه حفلاته مغنيا فيها مع الشيخ للمرة الأولى، دون بروفات، والنتائج كانت جميلة ومهمة فعلا.
في السبعين من عمره، عمد صاحب “شيد قصورك” إلى الاعتزال في غرفته المتواضعة في حي الغورية الشعبي، دون أن يغادرها حتى توفي، عام 1995، تاركا إرثا فنيا ووجدانيا عظيما بين الناس. ولا زالت “أنا توب عن حبك أنا”، التي كانت سبب شهرته الواسعة، الأغنية المفضلة لمن وقع الغرام في قلوبهم كصخر ثقيل، ففيها مواساة وحنان يجعل الصخر الثقيل يطفو.. بل يطير!
تمّام بركات