ما زرعه “ماكرون” وأسلافه
أحمد حسن
لم يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حلّ لـ”الوضع الخطير في فرنسا” سوى الطلب من أهل المحتجين “تحمُّل مسؤوليّاتهم في مراقبة ما يتسلّى به أبناؤهم من ألعاب فيديو وما يشاهدونه على مواقع التواصل الاجتماعيّ”.
وبدوره لم يجد الاتحاد الأوروبي أيضاً سوى تعبير “عمل استفزازي واضح” ليصف حرق نسخة من القرآن الكريم في السويد.
الطرفان، أي ماكرون والاتحاد الأوروبي، يراوغان كعادتهما للتغطية على الحقيقة، فالسبب في الحالتين هو الفشل الذريع والكامل في وضع حدّ للعنصرية المنظّمة ولسياسات التمييز العرقي والديني ضد “الآخر”، الخارجي أو الداخلي، وإذا كانت سياسات التمييز ضد “الخارجي” تمثّلت بالاستعمار المباشر وغير المباشر، فإن التمييز ضد “الداخلي” تمثّل في كل مناحي الحياة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو تمييز طال كل ما هو غير “أبيض” بالمعنى الأوروبي وتناول بالتالي الملايين من المقيمين في تلك البلاد حتى لو كانوا ممّن وُلدوا وعاشوا فيها لعقود عدّة، فهؤلاء، أي أولئك المهاجرين، ينتمون حسب السردية العنصرية المنظّمة –بإرثها “الاستشراقي” الكبير- إلى مجتمعات متخلّفة بالجوهر، وبالتالي لا يمكن لهم أن يكونوا منّا، بل لا يمكن أن يكونوا بشراً أيضاً، فهم “همج” و”رُعاع” و”أغيار” و”حثالات” مقيتة، وهذه “كلمات” وتعابير لا تعني على أرض الواقع سوى تقديم المبرّر الأخلاقي لمن يريد “تحييدهم”، وبكلمة أكثر وضوحاً، هذه “تعابير” قاتلة ليس لها في النهاية سوى أن تساهم فعلياً في الضغط على زناد مسدس الشرطي الذي قتل المهاجر الجزائري بدم بارد، كما ساهمت سابقاً في الضغط على زناد مسدس الإرهابي الذي قتل الآمنين في سورية لأنهم أيضاً “أغيار” ويرفضون حقّنا في استعبادهم!.
بهذا المعنى يبدو أن ما يجري في فرنسا خطير للغاية وينذر بالأسوأ ليس لفرنسا فقط بل لـ”أشقائها” أيضاً الذين بدؤوا يستشعرون مغبّة ذلك، فالتحرّكات الشعبية الحالية، والسابقة أيضاً، تتكشّف عن كراهية متبادلة، كراهية الدولة الغربية بصيغتها الحالية وسياساتها الإقصائية للآخر، وكراهية هذا الآخر للدولة، ونظامها، ومؤسّساتها، والشرطة التي تحفظ الأمن فيها، وبالتالي فإن أسئلة من نوع أين يكمن الخلل؟ أفي النزعة السلوكية العنيفة لدى الشرطة، أم في تزايد ظاهرة الانحراف لدى الشباب ولا سيما المنبثق من العائلات المهاجرة؟، أصبحت أسئلة مضلَلة ومضلِّلة معاً، لأن التدقيق في الأمر يكشف أن ما يجري ليس مرتبطاً بسياسة بلد ما أو حكومة محدّدة، وبالتالي ليس انحرافاً ما في سير التاريخ “الطبيعي” يمكن تصحيحه ومعالجته، بقدر ما هو نتيجة طبيعية لعنصرية منظّمة ومُمأسسة، سياسياً وثقافياً، زادها اشتعالاً اتباع هذه الدول للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية النافية موضوعياً للآخر سواء كان الآخر الفقير أم الآخر المغاير عرقياً أو دينياً، وهي السياسات التي يُعدّ “ماكرون” -بشخصه وتوجّهاته- خيرَ ممثلٍ لها.
خلاصة القول، هذه الأزمة الفرنسية الجديدة هي نتاج طبيعي للتزاوج بين عنصرية منظّمة وسياسات “نيوليبرالية” فاجرة، ما أوصل الأمور إلى هذه النقطة، فعلى الصعيد الاقتصادي لم يعُد هناك شبكات أمان للمواطنين ولا قدرة حكومية على الحدّ من الركود الاقتصادي وعكس اتجاهه من أجل استعادة نشاطه الطبيعي، وعلى الصعيد القيمي لم يعُد هناك أمام المهاجرين تحديداً من سبيل لمواجهة السلوك العنصري والفوقي الذي تنتهجه الدول الغربية ضدّهم سوى العنف كحصاد طبيعي لما زرعه “ماكرون” وأسلافه وأشباهه أيضاً.