فاروق سايس: ماكيتات الآثار فكرة للانتماء مضادة للدمار
حلب- غالية خوجة
تتنوع أساليب ووسائط المعرفة، ويتوقف التعلق بها على الكيفية التي تجمع العديد من الأهداف منها التشويقية والتثقيفية والفنية والتشاركية، فكيف إذا كانت موجهة للأطفال خصوصاً وللمجتمع عموماً؟
اهتم الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والفنانون والأدباء والموسيقيون والتربيون بالأطفال، لما لهم من دور كبير في بناء الحاضر والمستقبل، وليتناغم البناء بحضوره الأفضل فلن يكون للكبار إلاّ أن يتشاركوا مع الصغار تفاعلياً، وهذا ما اختصرته حكمة القائد حافظ الأسد: “تعلّموا من الأطفال وعلّموهم”.
وجدتُها! لعبة المعالم التراثية
ومن هذه الوسائل ألعاب التركيب لأهميتها الضرورية للأطفال والطلاب والعائلة، على مختلف الأصعدة التعليمية والمعرفية والنفسية والاجتماعية والإبداعية، كونها تضيف للطفل تفاعلاً ذهانياً ومخيلتياً وحواسياً، فتساعده على تنمية طاقته بتشويق وجاذبية، لكنها تكتسب أهمية مميزة عندما تكون هذه الألعاب “ماكيتات” لمعالم أثرية سورية، وفكرة إبداعية ابتكرها وطبقها الباحث الكاتب فاروق سايس وهو من مواليد مدينة قلعة الحصن، موظف في المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق، والذي أجابنا عن أسباب فكرته الإبداعية ومشروعه في تحويل الآثار السورية إلى ألعاب تركيبية:
خلال عملي في مجال الآثار، لم أجد تذكارات موجهة للأطفال في مراكز بيع المذكرات، فلمعت فكرتي وشدتني إليها لأصمم ماكيتات لمواقع أثرية للأطفال ليبنوا قلعة بأنفسهم مثلاً، وتكون تعليمية وتكسبهم مهارات وتكتشف مواهبهم، إضافة إلى أنها تزيدهم انتماء لوطنهم وهويته الثقافية الحضارية التي يفخرون بها، خصوصاً، بعدما استهدفت الحرب الظالمة وطننا ومنه هذه البنية الأثرية ومعالمها التأريخية العريقة.
سورية حلمي
وهل كان هذا المشروع حلم طفولتك الذي لم تجده، بل صنعته للجميع؟
حلمي أن أنجح في بناء جميع المواقع الأثرية السورية بشكل مصغر على ارتفاع مابين 50 سم وواحد متر، وأضعها ضمن قطعة أرض، وكل ماكيت منحوت ومصنوع من مواد مقاومة لعوامل الطبيعة يوضع في مكانه حسب المحافظة، لتكون النتيجة ماكيتاً مصغراً لخارطة سورية مؤلفاً من ماكيتات لجميع قلاعها ومدنها وأنهارها وجبالها وتضاريسها.
قص وطي ولصق ورسم بأبعاد ثلاثية
ما أسس هذه التكوينات المجسمة للآثار؟
لعبة الحصن بأجزائها المختلفة عبارة عن مجموعة من أطباق الكرتون المقوى من نوعية ممتازة غير قابلة للكسر بسهولة أو التلف، تعتمد على القص والطي واللصق حسب مخطط مرفق لطريقة التركيب.
ألم تفكّر بمواد أخرى مناسبة؟
الكرتون فيه روح، لأن الطفل هو الذي سيقص ويركّب وينجز وسيبعد أهله عن مساعدته، وهذا ما أخبرتني به الكثير من العائلات، وعندما ينتهي الطفل يفرح لأنه أنجزها بنفسه، ويحتفظ بها في ركن في البيت ليعرضها، وأيضاً أخبرني الكثيرون بأنهم ابتعدوا قليلاً عن الأجهزة والنت ووسائل التواصل الاجتماعي وصاروا منشغلين بإنجاز المعلم الأثري، وهذا من أهداف عملي ليكون هناك تفاعل بين الأطفال والأهل، وبينهم واللعبة التي تحقق أهدافها الأخرى كالعلمية والتأريخية والبحثية والثقافية والفنية والهندسية، إضافة إلى اكتشاف مواهبهم، لأن هناك أطفالاً صاروا يرسمون العمود مثلاً بأبعاد ثلاثية.
وتابع: من الممكن توظيف مواد أخرى غير الورق مثل مواد خشبية أو بلاستيكية مخصصة ومرنة وقابلة للقص، أي تتمتع بكامل مواصفات الورق المستخدم في هذا المنتج التعليمي المعرفي، ولكن، هذا يحتاج إلى الدعم المناسب من الجهات الحكومية أو الخاصة، ولقد استخدمت الخشب بماكيت قلعة المرقب بحجم كبير وهو معروض أمام الزوار منذ افتتاح القلعة العام الماضي.
بين التصميم والإنتاج فريق عمل
وكيف جمعت بين علم الآثار والهندسة المعمارية والفن التشكيلي والرياضيات في هذه الألعاب الموجهة للأطفال والشباب والكبار؟
من خلال عملي في المديرية العامة للآثار والمتاحف، ومشاركاتي العديدة مع بعثات أجنبية في أعمال التنقيب وأعمال الرفع الهندسي، ودورات اتبعتها داخل وخارج سورية منظمة من قبل اليونسكو كان أهمها إيفادي إلى دولة اليابان، فتنامت خبرتي وقمت بإنجاز هذا العمل مع فريق مؤلف من مهندسين معماريين ومصممين، وقبل البدء بتصميم أي موقع نجري عدة دراسات تأريخية وهندسية وفنية.
التساؤل بوابة المعلومة
هل هناك معلومات تأريخية تتضمنها ماكيتات المعالم الأثرية؟
لم يتم وضع شرح على اللعبة، وذلك لدفع الطفل والأهل والطلاب للبحث في الكتب أو الإنترنت والسؤال عن هذا الموقع وتأريخه ومجتمعه وطريقة حياته وأدواته وكيفية تطوره وأهم شخصياته وأحداثه، ليكون الانطلاق من مرحلة لعبة الماكيت إلى مرحلة لعبة المعرفة من خلال التساؤل والبحث، وهذه الرحلة من أهداف هذه اللعبة، وهذا ما توصلت إليه بعدما تساءلت وسألت كثيراً، لأن فريقاً من الباحثين الآثاريين الذين ينقبون في سورية كان مع عدم كتابة شرح من أجل أن يبحث الطفل وعائلته عن المعلومة، بينما كان فريق آخر مع الشرح.
ليست الكترونية
لكنك تتوجه إلى الطفل السوري أولاً ثم العربي، ثم الأجنبي، والبحث والاكتشاف ضرورة، لكن ماذا لو كانت هناك نبذة مختزلة بطريقة محببة وتشويقية تعريفية ثقافية تأريخية من أصل التركيب الخاص بكل ماكيت، وتكتمل مع انتهاء التركيب مع الإحالة إلى مراجع الكترونية وورقية لتكتمل الأهداف، وبذلك تكون النبذة على مجسم الماكيت النهائي؟ وماذا لو أن هذه اللعبة توفرت بصيغة الكترونية أيضاً؟
أجاب: أفكّر أن أجرب النبذة والإحالات في بعض الماكيتات مع دراسة مناسبة، لكنني لا أفضل أن تكون بشكل الكتروني لأنها ستفقد الروح، كونها لعبة تعتمد على القص والطي واللصق، وتجعل الطفل يفكر ترادفياً مع الإحساس بالبعد الواقعي مثل تحريك يديه، وهي تفاعلية تشاركية بين الطفل ومجتمعه من الأهل والأصدقاء، ولأنها تفاعلية واقعية جذبت وانتشرت، لدرجة أن الكثير من المغتربين خارج سورية يتواصلون معي ليطلبوا تصاميم يريدونها.
واسترسل: هذا ما لمسته من تفاعل ملفت من المشاركين في الفعاليات العديدة التي أقمتها ومنها ورشة عمل برعاية وزارة التربية، وفعالية أطفال مرضى السرطان “جمعية بسمة” الذين ورغم آلامهم أنجزوا أصعب ماكيت لقلعة الحصن وأرسلوا لي الصور، ومنحوني سعادة لا توصف، كما أن لي مشاركة قريبة لفعالية المجتمع المحلي بدمشق القديمة وسيشارك فيها أكثر من 180 طفلاً، وسأسألهم إن كانوا يفضلون هذه اللعبة أن تصبح الكترونية متوقعاً أنهم يحبونها لأنها واقعية.
قريباً من حلب
كم معلماً أثرياً من سورية نفذت حتى الآن؟ ومتى ستنجز ماكيت قلعة حلب؟
أنجزت ماكيت لكل من قلعة الحصن، وقوس النصر تدمر، وتترابيل تدمر، والجامع الأموي، ومدرج بصرى، وبالنسبة لماكيت قلعة حلب وحسب الخطة الزمنية مابين شهر إلى شهرين لأننا عند البدء بتصميم أي موقع لا بد وأن ندرس جميع التفاصيل لجميع عناصر البناء من جميع الجوانب وذلك للأمانة العلمية.
بين المناهج والسفينة الفينيقية
هل فكرت أن تكون لعبتك من الأدوات الإيضاحية التطبيقية للأطفال واليافعين والطلاب في المراحل الدراسية المختلفة وأن تكون ضمن المناهج؟
هناك دراسة وتوجّه لأن تكون من الأنشطة اللا صفية، آملاً أن تكون في المستقبل جزءً من المناهج الدراسية.
ما أعمالك وطموحاتك القادمة؟
أعمل الآن على إنجاز ماكيت لدير سمعان العامودي بحلب، وماكيت لقلعة المرقب بطرطوس، وفي المستقبل سأعمل على إنجاز ماكيت للسفينة الفينيقية السورية، وماكيت للجسر المعلق بدير الزور، وبعدها للمدن السورية مثلاً أبواب دمشق القديمة، وأستمر لأنجز جميع المواقع الأثرية السورية، وأتمنى في بعض الأحيان أن يكون اليوم ٤٨ ساعة بدلاً من ٢٤ساعة، وأيضاً أطمح في الوصول للعالمية، والدخول في مسابقة عالمية.
اكتشف قلعة الحصن
وماذا عن الكتابة؟
كتابي الأول “اكتشف قلعة الحصن” توثيقي موجه للزوار، تمت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية، وأهم محاوره اللمحة التأريخية عن القلعة، الكتابات والنقوش وترجمتها وشرحها والزخارف والمنحوتات الموجودة ضمنها، والرسومات “فريسك” وهي ترسم على طبقة كلسية، ورموز النحاتين والتي تعتبر ختماً خاصاً بكل عامل وإنجازه لأنه كان من المعتاد أن يضع كل عامل إشارة صغيرة على الحجرة لنعرف من خلالها أنها من عمل فلان، إضافة لمحور خاص تضمن مخططاً لزيارة القلعة تسهيلاً على زائر الموقع، ولقد شاركت بهذا الكتاب في معرضين للكتب، معرض مكتبة الأسد، وإكسبو الشارقة، ولدي مخطوطة كتاب عن خان أسعد باشا.