قدرات المقاومة.. صمود جنين نموذجاً
د. معن منيف سليمان
سبّب التعاظم النوعي في قدرات المقاومة الفلسطينية في جنين أرَقاً لصنّاع القرار، وقادة الأجهزة الأمنية في كيان الاحتلال الصهيوني، حتى أن الإسرائيليين أنفسهم يرجعون قرار الهجوم على جنين لتعاظم قوة مقاومتها، ولاسيما بعد عدّة عمليات نوعية أدّت إلى إصابة عدد من الجنود الصهاينة خلال اقتحام عسكري عنيف للمخيم في حزيران الفائت، فضلاً عن سقوط صاروخ محلّي الصنع في مناطق تسيطر عليها “إسرائيل”، ما عدّه الاحتلال خطراً يُنذر بتعاظم قدرات المقاومة.
وكان من اللافت على هذا الصعيد تبلور أطر جديدة للمقاومة الشبابية في مدن، ومخيمات الضفة الغربية والقدس المحتلتين، أبرزها، “عرين الأسود” في نابلس، و”كتيبة مخيم جنين”، و”كتيبة مخيم بلاطة”، وكتيبة “مخيم شعفاط” في القدس، وغيرها من أطر ومجموعات مقاومة قرّرت أن تنهج طريق الكفاح المسلح ضدّ الاحتلال والمستوطنين سبيلاً للدفاع عن عروبة الأرض والحقوق الوطنية، والنضال لتحرير فلسطين.
عاد مخيم جنين إلى الواجهة مرّة أخرى مع ظهور “كتيبة جنين” التي تضمّ عناصر من كافة أطياف المقاومة، إضافة إلى عناصر لا تنتمي لأية تنظيمات سياسية. ولا يقتصر أفراد هذه الكتيبة على أبناء المخيم، فهناك عناصر من مدينة جنين والقرى المجاورة ينضمون إلى الكتيبة، ويشاركون معهم خلال الاشتباكات التي تحدث من وقت لآخر.
وفي هذا السياق شنّ الساسة الإسرائيليون وغيرهم من صنّاع القرار هجماتٍ لفظيّة على جنين في إطارِ حملة تجييش استعداداً أو تمهيداً أو حتى شرعنةً للاجتياح، حيثُ وصفَ وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين المدينة بأنها “مركزٌ للأنشطة الإرهابية”، كما دعت شخصيات بارزة في حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية إلى الانتقام من المدينة عبر شنّ هجومٍ عسكري ضخم يُنهي كل مظاهر المقاومة داخلها.
وتأتي حقيقة تحوّل جنين إلى عامل فائق الخطورة بالنسبة إلى الاحتلال، وخاصة بعدما بدا أنها تتمتّع بقدر من الحصانة نسبةً إلى بقية المناطق، وباتت أكثر قدرة على المبادرة، وإلحاق الخسائر المؤلمة بالجنود والمستوطنين. كما يكشف اختيار جنين كساحة للعملية العسكرية، عن خشية قيادة العدو من تحوّلها إلى نموذج يقتدى به في بقيّة المناطق الفلسطينية، وهو ما أبداه صراحة أحد كبار قادة الجيش الإسرائيلي، الذي أعلن أن الهدف من العدوان “تقويض التصوّر بأن جنين أصبحت مدينة ملجأ” بالنسبة إلى المقاومين. وإذ ينبئ هذا الحديث بالثقل النوعي لجنين في وعي قادة العدو، فهو يؤشّر إلى أن واحداً من الأهداف المباشرة والرئيسية للعدوان عليها، تبديد شعور المقاومين بالأمن، وإشعارهم بأنهم مطارَدون ومستهدفون، فضلاً عن ضرب بنيتهم التحتية بشقَّيها المادّي والبشري، وهو ما أكده الناطق العسكري بقوله إن الهدف “ليس احتلال جنين، وإنما إضعاف” المقاومة.
كذلك، يأتي العدوان بعدما سجّلت العمليات الفدائية قفزة نوعية، وتحوّلت إلى تحدّ جدّي لمؤسّسة القرار السياسي والأمني، وأشعرتها بتعاظم التهديد الذي تتّسع دائرته لتشمل العمق الاستراتيجي للكيان. ولعلّ أكثر ما أقلق العدو في تلك العمليات، هو اتجاهات المستقبل، في ضوء معطيات الحاضر في الضفة، التي تشكّل الساحة الأهمّ والأكثر خطورة على أمن الكيان. وبعدما ألغى هذا التحوّل مفاعيل سياسة الاحتواء التي راهنت قيادة الاحتلال على نجاحها في الحدّ من الأثر الأمني للمقاومة، وأظهر محدودية تأثير عملية “كاسر الأمواج” المستمرّة منذ أكثر من سنة، فلم يكن ثمّة بدّ من ا
أمام موجة من عمليات المقاومة البطولية، تتوزع وتتنقل على مختلف الجغرافيا الفلسطينية، مع ما رافقها من خروج الوضع فعلياً عن سيطرة الاحتلال، استخدم الاحتلال الطيران الوحشي لاستهداف المقاومين، الأمر الذي يؤكد على إخفاق الاقتحامات البرية، والعجز عن كسر إرادة المقاومة لدى الشعب العربي المقاوم في فلسطين.
إنّ هذا التطور في حركة مقاومة الشعب الفلسطيني إنما يدلّل على تدشين مرحلة جديدة من النضال الوطني التحرري ضدّ الاحتلال، تتسم بسقوط كلّ الرهانات على الحلول السياسية مع عدو لا يفهم إلا لغة المقاومة.