غادة اليوسف في “هي في المشهد الأخير”.. مدارات الظل والضوء!!
حمص- سمر محفوص
لم تتنازل غادة اليوسف في “هي في المشهد الأخير” المجموعة الشعرية الصادرة عن دار الينابيع، وتضم ٢٧ نصاً في ١٢٧صفحة من القطع المتوسط، عن تقانات اللغة التي تجيدها وتبدع بها لمصلحة الشاعرية الشفافة والعميقة معاً، بل وظّفتها لجهة ملء الفراغات وتشكيل الخطوط التصاعدية، مستخدمة باقة من الإشارات متعددة المستويات، لترسم ملامح واقع شديد التعقيد، طارحة خلاصتها على شكل انحياز كلي للحياة.
ألمح زرقة..
فأدرك.. أنها لسماء
… وإن بعدت
يومض ضوء..
فأطمئن..
إنها شمس.
في نظرة سريعة تبدو الصور الشعرية منفتحة على الأشكال والمدارس التعبيرية
فادرك.. أنها لسماء.. وإن بعدت لأن المسافة وهم خطه الظرف.. يومض ضوء… فأطمئن… متمكنة من أدواتها تجيد طحن فضاءات الفكرة لتصقلها وتعيدها بكامل النورانية والضوء… إنها الشمس… واضحة وضوح الرؤيا والاستجابة لسيل السرد. تحملنا في رحلة جوانية لعوالم المبدعة المتمردة، تخطّ زمناً مكثفاً للشغف الذي يسكنها فتختار عناوين النصوص باقتصاد وإيجاز، بخفة رقيقة تتشابك بذاكرة المكان “معراج”
أنا..
المتشبثة بالحياة..
والبلاد صرة..
محشوة
بذاكرة البيت
أعترف..
أني سقطت..
معفرة بالضوء..
في..
هاوية السؤال.
تشكل مشهدها خروجاً لتمضي محلقة في أفق اعترافاتها.. أعترف.. أني سقطت.. في هاوية السؤال.. ميزه هذا الاعتراف أنه مضيء ومشرق في ما يحمله الإيحاء بعبارة معفرة بالضوء، لتفتح الباب على الأسئلة الصعبة، على الرغم من أنها تشير إلى تتالي الانهيارات بمفردة في هاوية، لتؤكد أننا كلما وصلنا إلى قاع نجد قاعاً أكثر عتمة يتجهز.
“يغيب الحب”
على رصيف الصباحات الكالحة
فتذبل في الدم الأغنيات..
وإذ يخذلك الجناح..
ينغلق الأفق..
تهوي هامتك..
تشدّ غادة الصياغات من رموشها، فتنصاع اللغة للقصيدة تمشط خصلات الحروف الزائدة عن حاجة الشعر بمجموعة حروف إيحائية تشغل دوراً مركزياً في سياق إطلاقها حكماً “يخذلك الجناح” قابلاً للنقض ينغلق الأفق وهي القاضية المتمرسة تحت قوس العدالة الذي مارست فيه مهنة القضاء لسنوات طويلة “تهوي هامتك”، فنراها هنا تستخدم الجملة كفكرة عميقة للسقوط أو الخيبة “هامتك”، فسقوط الهامة يعني خذلانها وانسحابها من الفعل، وليس مجرد وسيلة للتعبير عن الانفعالات الداخلية، محولة إياها لعملية بحثٍ ذاتيةٍ، بكل تجلّياتها الإنسانية.
هي دعوة للحياة والحب وبناء ما تهدّم منا، ويبقى الإنسان هاجساً حقيقياً لديها كيفما وأينما كان، تطرح مفاهيمَها حول المرأة، والرجل، والعلاقة بينهما، “امرأة”
ليس يلام المطر المسكون ببرقك
يا امرأة..
تتجدّد مع المائي..
وتعبرين..
في هذا الديوان، تحقق غادة اليوسف نقلة مهمة ضمن ما قدمته خلال مسيرتها الحافلة بالإنجازات، وتحقق انتقالاً من الصيغ والقوالب الجميلة شبه المنجزة إلى رحابة الشغف والجمال والعبث الخلاق ربما، وهي تمارس طفولة تأبى أن تغادرها، فتكمل رحلة القلق القديم بالاقتراب من الروح والذات في تقاطع حركة الظلال والضوء داخلها وهي تعتمد على ثلاثة مرتكزات، الحب.. الخيبة.. الوطن، والضياعات التي أثخنت جسده معتمدة عليها كجسر ضوء نازف تعبّر من خلاله وتعبر منه إلى عوالمها الشعرية. فتقول في نصها “المعنون بلادي” ص٩٤
أشهق أوجاعك..
أزفر آهاتك..
وباسمك..
أفكك أزرار السؤال
أعري حقيقتك البديعة من جلباب
الأجوبة
الشائخة.
وهي هنا تضيف إلى الانتماء الوطني المتأصل داخلها، تمرداً ورفضاً للاستسلام للظروف، أعري حقيقتك البديعة من جلباب الأجوبة.. إذن هي لا تبحث عن جواب تقليدي بل تصوغ أسئلتها التي تليق بظرف كلّ ما فيه غير منطقي لكنه يحدث، مما يتيح مجالاً لا نهائياً أمام المتلقي لطرح الأسئلة المعرفيّة والجمالية باعتبار الوطن هو المكان أو الرحم الحقيقي لاحتواء المكونات كلها وحتى التناقضات التي تنجز قناعاتنا وعلاقتنا مع الزمكان والهوية والذات.. كما جاء في نص نثار الحاء “حواء”
مبعثرة..
بين ضدي وضدي
وضدي
يتنازعني كثيري..
لتؤكد أن الانكشاف جزء من تعديل الواقع، في مقطع من “نص الليل”
نسافر معاً..
إذ لارقيب
غير الضوء
تنتظرنا..
لحظة كشف…
إنه الكشف الذي يضعنا بمواجهة مع قضايا بعينيها، مشيرة إلى أزمة حقيقية، وقلق وجودي، لن يحلّ إلا عبر التناغم مع هذا الاحتدام الوجداني، والتأمّل والبحث العميق عن جذر القلق فتتحرّر المفردات وتدلّ على معناها باعتبارها خاصية من خصائص الوظيفة الأدبية.
كما أكد عبد القاهر الجرجاني على أهمية المعنى من خلال ما أثبته في أن البلاغة لا يمكن أن تكون إلا في المعنى دون اللفظ، والتأليف دون اللفظة المفردة من خلال عملية تأويل النص الأدبي، كما جاء في نص “المشهد الأخير”
صمت خبيث.
واليوم..
كل صمت خبيث.
خروجاً عن الأنماط المألوفة، تخلق مقاربة بين ما تودّ قوله وكائنة عليه واليوم كل صمت خبيث، وما تشير إليه بموضوعاتها وتقنياتها وصياغاتها المتنوّعة.
من نص “رحيل”
أسفل المنحدر؟؟
لست ابن النبع..
وأنا.. لست صفة
.. للعبور
ضفة مستباحة
احتضنت دفقك.
غادة ظاهرة تفاؤلية قائمة في ذاتها، ثرية بالتحولات التي تتعامل معها بذهنية الراصد الرائي المستكشف للعلامات الفارقة والتي لا تُماثل سواها معتصمة بالأمل أبداً ودائماً. تبني مسرحاً من ظل بسيرة ذاتية، غير معنية بناقد يشغله تفكيك البناء الشعري أو إعادة إنتاج النص، ووقوفاً عند الصورة المتخيلة، من نص “بارقة”
رهيف.. كشعرة الصراط
لا يرى..
إلا.. حين يتمادى الظلام….
و”في ذات النص”
…. حدها الاعظمي..
عسى..
أن.. يسعفني الصوت..
وهذا ما يؤكد مجازية العنوان “هي في المشهد الأخير” لجهة السياق والرؤية وطرائق التعبير.. رهيف.. كشعرة الصراط.. إذن هو على الحدّ الفاصل ولكنه أيضاً متوارٍ /لا يرى../ إلا حيث تريد إظهار تجليه.. وعلية يبدو العنوان متناغماً ومفتاحاً لما هو مستور أو واضح بعنوانها المجازي، هي في المشهد، وضمن سياقها التعبيري الطبيعي.