مصير الثقافة والهوية أمام التكنولوجيا الرقمية
د. عبد اللطيف عمران
نحن اليوم -أكثرنا- أسارى الثقافة الرقمية التي تزدهر في عالم مجنون كعالم اليوم، فلم نعد نتردد على المكتبات العامة لقراءة الكتب الورقية، ولا على دور النشر لشراء هذه الكتب إلا نادراً، وهذه مظاهر يزداد الإعراض عنها مقابل الإقبال على معطيات هذه الثقافة.
تتسابق اليوم محركات البحث الالكترونية إلى رقمنة الكتب والأبحاث والندوات، وإلى تحويل المكتبات الوطنية من أبنية ضخمة تختزن التراث المعرفي والحضاري والعمراني والثقافي والهويّاتي إلى أبنية وأمكنة بلا رفوف وقاعات وطاولات وكراسيّ وقرّاء وروّاد، في سبيل أُلفة وسائط جديدة غير معهودة للقراءة السريعة والتلقي الاعتباطي غير المعروف الهدف منه بدقة، فإذا أردت أن تقرأ بحثاً محدداً أو كتاباً واحداً فإن الفضاء الرقمي يتنقّل بك وبثقافتك ووعيك وهويتك في مجالات عديدة تكاد تصرفك عن هدفك المحدد أو تضيّعه أمامك.
أثناء انعقاد القمة العربية الـ32 في جدة زرنا على الهامش مكتبة الملك عبد الله فأعلمنا مديرها أن المكتبة الرائعة والمجهزة تجهيزاً حضارياً لافتاً تزخر بمليون كتاب 4٪ منها ورقي والباقي رقمي.
نحن لا ننعى الماضي التليد للتلقي، ولا الكتب والصحف الورقية، ولا نندد بمعطيات التكنولوجيا الرقمية في هذا المجال ولا في غيره، بقدر ما يفرضه الواجب علينا من تدقيق في بعض مخاطر هذه التكنولوجيا على الثقافة والهوية، على الأوطان والإنسان، على المصير والواجبات والحقوق، وبقدر ما يجب أن نتساءل عن الهدف مثلاً من تملّك مارك زوكربرغ: فيسبوك وواتس آب وانستاغرام ومؤخراً ثريدز، وكذلك من انعطاف إيلون ماسك مالك شركة صواريخ سبيس إكس، وسيارات تسلا نحو شراء تويتر. فهذان وأمثالهما لا تعنيهم همومنا وحقوقنا، ولا ثقافتنا الإنسانية، ولا هويتنا الوطنية.
يحق لنا، بل من الواجب، أن نمعن النظر في مسار وعي وانتماء والتزام أجيالنا الطالعة إلى الحياة، وهم ينضوون في جمهور المستهلكين الذين يقبلون بشكل أكثر ازدياداً، وأقل انتباهاً، على أهداف أولئك الذين يتيحون لهم بسهولة وسرعة ومجانية الانتقال من منصة إلى أخرى، ومن محرك بحث إلى آخر بحرّية تامة مقابل أهداف كامنة قد لا تكون في مصلحتهم كأفراد ومجتمعات وبلدان أيضاً.
فهناك من يرى اليوم أن انكباب الجيل الطالع على الثقافة الرقمية سيؤثر بشكل كبير على إدراكه الصحيح والبنّاء للواقع الصعب المحيط به هوياتياً وثقافياً ووطنياً، نظراً إلى تعرضه لتقلّب رياح الثقافات والهويات التي تهب في وجهه من كل حدب وصوب هبوباً يتعذّر عليه التيقّن من أنها ثقافة إنسانية أو وطنية على الأخص في زمن توحش الليبرالية الجديدة وانخراط رئيس الدولة الأقوى في العالم في منظومة الدعاة إلى المثليّة والتحول الجنسي والمليار الذهبي…إلخ.
والحق، فكثيراً ما تطالعنا في الثقافة الرقمية غياب الأمانة العلمية، والمنهجية، ونظرية المعرفة الإنسانية، والدقة والوضوح، والأهم من ذلك همومنا الخاصة، ومستلزمات النهوض الحقيقي بواقعنا الذي نعيش فيه، فنقع تحت وطأة غزو ثقافي جديد، وثقافة عامة فضفاضة لا متخصصة، وهذا وجه آخر للعولمة يقوم على تدمير الهوية والخصوصية الإنسانية والحضارية لمجتمعات وأوطان تعتز بهويتها وانتمائها، وتعاني في الوقت نفسه من معطيات استهداف الهوية والحقوق والوعي ومستلزمات العيش الحر الكريم والقرار السيادي المستقل، ومن احتلال للأرض وصولاً إلى احتلال العقل والإرادة والسيادة والقرار.
في ظلال هذه الثقافة لن تنتج فرنسا ذا تأثير عالمي وإنساني مثل روسو وديكارت، ولا إيطاليا مثل ميكافيللي وغرامشي، ولا ألمانيا مثل هيغل وماركس، ولا بريطانيا مثل جون لوك.
لذلك نرى كثيراً من المتبصّرين اليوم يرون أن الثقافة الرقمية ليست محايدة، وأن الامتاع والجاذبية واليسر في محركات بحثها وفي منصاتها المتكاثرة تكون على حساب الالتزام والمسؤولية والوعي، والمشاعر العليا للوطنية والإنسانية، إذ إن الأغراض التجارية والسياسية هي الأهداف الكبرى هناك، وإن حرية التعبير الظاهرة هي حرية زائفة، ولذلك تبني اليوم دول مناهضة للهيمنة والتفرد مثل روسيا والصين وإيران حواجز رقميّة في سبيل إنتاج أنظمة رقمية وطنية وإنسانية خاصة ومتميزة وبنّاءة.
ما يهمنا في هذه المنطقة من العالم أن تكون رقمنة الثقافة إنجازاً نواجه به التحديات المعروفة التي نواجهها على أكثر من صعيد ولاسيما في مجال هويتنا الوطنية والعروبية إذ إن الأسئلة الكبرى حول الهوية الوطنية اليوم تلتصق بالثقافة الوطنية، التي تلتصق بدورها بوعي هويّاتي، وليس بمراكز أبحاث واستخبارات الغرب، فإنساننا في هذه المنطقة من العالم يولد بيولوجياً بعناصر مكوّنة مسبقاً لهويته الإثنية، واجتماعياً بعناصر مكوّنة لهويته الثقافية، في وقت لا ينكر فيه أحد – كما يرى دينيس كوش – أن الهوية تكاد تكون شأناً خاصاً بالدولة في المجتمعات الحديثة، فالأفراد والمجتمعات هم الأقل حريّة في تحديد هوياتهم بأنفسهم، دون أن يعني هذا أن المطالب الهوياتية ضد ترسيخ الهوية قسريّاً لا تزداد هذه الأيام في الدولة المعاصرة، إنها قوة الدولة المنشودة.
إنها لثنائية واضحة الإشكالية، لن تسهم الثقافة الرقمية العابرة والعامة بحلها، إذ ما يحك جلدك غير ظفرك.
… و(سورية عبر التاريخ هي هدف، وهي ليست مجرد أرض تصادف أن التقى عليها المتحاربون) كما أوضح السيد الرئيس بشار الأسد في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين في 20/8/2017، وأكثر ما ورد أعلاه.