المخرج المسرحي العراقي حسين علي هارف: أعتز بوصفي رجل مسرح.. والمسرح يتجدد بالتجريب.. وكل تجريب مغامرة
أمينة عباس
حل ضيفاً على نقابة الفنانين ومديرية المسارح والموسيقا قادماً من العراق مخرجاً وكاتباً لمونودراما “قلب الدمية” التي قُدمت مؤخراً على خشبة مسرح القباني وهو العرض الذي أُنتج بالتعاون بين نقابة الفنانين العراقيين ونقابة الفنانين ليقدم من خلاله تجربة مسرحية نوعية جديدة جمعت بين المونودراما والدمية التي تؤدي دور البطولة فيها الفنانة العرائسية إيمان عمر مصنّعة الدمى في مسرح العرائس.
وكان لمجلة “البعث الأسبوعية” هذا الحوار.
*حدّثنا عن خصوصية “قلب الدمية” لك كمخرج ومؤلف، ولماذا صرحت أنها كانت مغامرة؟
**المسرح يتجدد بالتجريب، وكل تجريب مغامرة، بمعنى أن المسرحي يجرب فينجح أحياناً في أن يلفت نظر الآخرين ويحقق دهشة وجمالاً، وأحياناً قد لا يستهوي التجريب الجمهور والنخبة والنقّاد، لهذا فإن المغامرة جزء من شخصيتي كمخرج وكاتب، وأنا جربت في فكرة النص التي تنطوي على المزاوجة بين فن المونودراما وهو تخصصي في شهادة الدكتوراه وفن أمارسه في بغداد وهو فن الدمى أو العرائس كوني رئيس اتحاد العراقيين للدمى، وهذه التجربة ولدت فكرتها في سورية عندما التقيت بالفنانة إيمان عمر في إحدى زياراتي واتفقنا أن نقوم بعمل مشترك دون أن نحدد طبيعته، مع رغبتها في تحقيق حلمها في أن تقدّم دمية مونودراما للكبار، فكتبتُ النص الذي يدور حول فكرة افتراضية لا تخلو من الفانتازيا وهي مغامرة على مستوى الفكرة والشكل والخطاب الذي قد يجده البعض جريئاً، وقد جاء على لسان دمية تبث فيها الحياة فيكون لها قلب ينبض ومشاعر، فتصحو وهي مهملة في مستودع الدمى وتبدأ بالبوح للجمهور وتعيش صراعاً داخلها عندما تمارس مشاعرها الإنسانية، لنكتشف من خلال بوحها زيف العالم الإنساني الذي دخلته حديثاً، وتقرر في النهاية أن تنسحب منه بالانتحار احتجاجاً على قسوة الإنسان في عالمه بعد أن ابتعد عن إنسانيته حين انشغل بالحروب.
*كيف أبصر العرض النور بين كاتب ومخرج عراقي يقيم في العراق وممثلة سورية تقيم في سورية؟
**أُنجز العرض بعد شراكة حقيقية مع إيمان عمر صاحبة الفكرة، فكتبتُ النص وأرسلته إليها، وفي فترة وباء كورونا قمنا ببروفات عبر الإنترنت بشكل منتظم، وقد صنعت الدمية بملامحها وفقاً للنص، وخلال مشاركة عمر في أحد المهرجانات في العراق التقينا وأجرينا بروفات عديدة، وحين أنجز العرض فنياً تبنته نقابة الفنانين العراقيين ونقابة الفنانين السوريين التي حضر نقيبها أ.محسن غازي العرض الأول العام الماضي في بغداد على خشبة المسرح الوطني “أشور” وقد لاقى العرض إعجاب الجمهور الذي تفاعل معه بشكل كبير، ثم شارك العرض في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما وأكد الكثير من المسرحيين أنها تجربة جديدة تستحق الإعجاب.
*لك أيادٍ بيضاء في تفعيل فن المونودراما وقدم تَأول أطروحة دكتواره فيها وأسست أول مهرجان لها في العراق،فأي مشاكل يعاني منها هذا الفن؟
**المونودراما فن مسرحي صعب، ومن لا يجيد تحصين نفسه وأدواته يقدّم ما يسيء إليه، وكثيراً ما تهاجَم المونودراما إما لضعف في كتابة النص أو في الإخراج أو في الأداء، وهي تحتاج لممثل يمتلك أدواته، ومن لا يمتلكها لا يصلح أن يقدّمها،وفي بلدان المسرح الحقيقي لا يقدّم الممثل المونودراما إلا بعد تجربة طويلة في العمل والوقوف على الخشبة لأنها تحتاج إلى ممثل قادر على أن يقدّم ما يدهش ويلفت النظر، والمآخذ التي تؤخذ على المونودراما لا يمكن تلافيها إن لم يكن هناك كاتب مونودرامي لا يكتب مجرد حكاية ليحكيها الممثل،فهي تحتاج إلى تقنية خاصة في الكتابة،لذلك تبقىالتجارب المونودرامية المتميزة في الوطن العربي قليلة جداً.
*كتبتَ المونودراما وكنتَ مخرجاً لها، فما الذي يميزك فيها؟
**أغلب نصوصي في هذا المجال أنا فيها مخرج وأحياناً ممثل، وأنا أعي ككاتب خصوصية كتابة نص لممثل واحد دون أن أقع في السرد الممل، فالمونودراما ليست عبارة عن كلام يُقال بل هي بحاجة إلى أفعال وشروط فنية عديدة، لذلك أكتبها برؤية المخرج وأتخيل ما يحدث على خشبة المسرح وأكتب.
*ككاتب ومخرج قدم العديد من الأعمال المسرحية الموجهة للطفل ماذا تحدثنا عن مسرح الطفل في العراق؟
**تجربة مسرح الطفل في العراق تأخرت بالقياس مع بدء الحركة المسرحية، حيث كانت بوادره في الخمسينيات بسيطة من خلال تقديم تجارب مسرحية أقرب ما تكون للمسرح المدرسي، وفي عقد الستينيات وهو عقد ازدهار الثقافة العربية بشكل عام بدأت تتبلور بعض التجارب المسرحية للطفل من خلال أسماء مهمة مثل سامي عبد الحميد أحد عمالقة المسرح العربي، إلى جانب بعض العروض المسرحية الأخرى، إلا أن الانطلاقة الحقيقية له كانت في السبعينيات على يد سعدون العبيدي المخرج والكاتب الذي كتب أول نص محلي لمسرح الطفل، حيث كانت العروض قبل ذلك تقدّم عن نصوص أجنبية عالمية، في حين أن مسرح الطفل يُفترض به مخاطبة الطفل المحلي،وعلى الرغم من وجود مشتركات عامة بين كل المجتمعات إلا أن هناك خصوصية لكل ثقافة وبيئة، وهذا ما يجب أن يدركه من يكتب له، وهذا ما فعله العبيدي ومن ثم قاسم محمد اللذان أسسا للبداية الحقيقية لمسرح الطفل الذي دخل ميدانه العديد من المسرحيين فيما بعد، وأنا منهم، فمع نهاية الثمانينيات قررت أن ألج عالم الطفولة، فكتبت مسرحيات كثيرة أصدرتُها ضمن مجموعات عديدة لندرة النص المسرحي المكتوب للطفل الأمرالذي كان يدفعمعظم المخرجين لإعداد نصوص عالمية لتقديمها، ونشط مسرح الطفل في العراق تدريجياً وأصبح هناك مهرجان له.
*وماذا عن تجربتك فيه؟
**منذ دخولي عالم المسرح قدّمت مسرحيات كثيرة للأطفال كاتباً ومخرجاً لما يمتلكه هذا المسرح من خصوصية وجماليات، مدركاً أنه يتطلب قدرات خاصة أهمها معرفة سيكولوجية الطفل وعلم نفس الطفولة لأن من يريد أن يعمل فيه عليه أن يكون فناناً وعالم نفس وتربوياً أيضاً، وبحكم أنني كنت مدرّساً في قسم التربية الفنية الذي يخرّج المدرسين في مادة التربية الفنية تعمقت علاقتي بالمسرح المدرسي، ولاحقاً بمسرح الدمى الذي كان فقيراً لدينا بالقياس إلى تجربة سورية وتونس، فعملت فيه باعتباره جزءاً من اهتمامات مسرح الطفل وكتبتُ وأخرجتُ له، كما اهتممتُ بموضوع مسرحة المناهج التعليمية وقدمت حتى المونودراما للطفل الذي صار محور اهتمامي لشعوري بالتقصير العام اتجاهه، فالطفولة محرومة من حقوقها البسيطة كحق الصحة والتعليم واللعب، حيث استثمرت الفضاءات التي كنا نلعب بها سابقاً تجارياً، وتحولت ملاعب كرة القدم لمنشآت تجارية، وضاقت السبل بطفلنا الذي لا يعيش اليوم بيئة صحية وجسدية ونفسية سليمة، ناهيك عن أن المدرسة التي يتواجد فيها الطفل لسنوات طويلة لم تعد كذلك، فغابت عنها الأنشطة الفنية التي كانت موجودة ويمارسها الطلاب في السابق والتي كان من خلالها يلتقط المعلمون المواهب ويشجعونها وهي التي كانت تغذي الحركة الفنية حيث نشأ جيل كامل من المسرحيين والفنانين التشكيليين تنشئة فنية وثقافية من خلالها وقد أصبحت اليوم بيئة طاردة.. إن التقصير بحق الطفل هائل، وهذا ما دفعني وزملائي لسد بعض النقص وبذل الجهود لترميم التصدعات التي تصيب عالم الطفولة.
*ما أهمية التوجه للطفل عن طريق المسرح؟
**المسرح أبو الفنون، وكل الوسائط التي تبعته من سينما وإذاعة وتلفزيون وفيديو ووسائل التواصل لن تلغيه أوتحل محله لأن له سحراً خاصاً لا يمكن أن تعوضه تلك الوسائط لأن لحظة جلوس الإنسان في مسرح وأمامه فضاء مدهش وممثل حي بلحمه ودمه يتحرك ويشعر بأنفاسه لا يمكن أن تعوض، لذلك لن يفقد المسرح بريقه وإن شحّ مريدوه ورواده ولن تنتفي حاجة الإنسان إليه كفنّ عظيم، فكيف بالطفل الذي يحب الدهشة واللحظة الحية والإبهار الذي يحققه له المسرح الذي أحاول من خلاله في أعمالي تعزيز عنصر مشاركته في سير الحكاية ضمن سياق اللعبة الدرامية، وهذا جزء من جماليات وأسرار فن المسرح الذي لا يمكن أن يتوفر في أي وسيلة أخرى، وأعتقد أن مسرح الطفل ضرورة لتنمية ذائقته الجمالية كوسيط تربوي وتعليمي لأن الأسلوب التربوي والتعليمي في المدرسة والبيت يقوم على الوعظ والتلقين، في حين أن المسرح يجب أن يبتعد عن ذلك لتتسلل إلى الطفل المعلومة التي يستنتجها لوحده، فيعيش فيه لذة الاكتشاف دون أن يشعر أن هناك إملاءات عليه.
*هل نجحنا عربياً في تقديم عروض مسرحية تتوفر فيها كل ما ذكرته؟
**من خلال حضوري للعديد من المهرجانات العربية لاحظتُ أن المسرحيين العرب وقعوا في مطب التعليم والموعظة المباشرة بدءاً من النص،حيث يتحول الكاتب إلى واعظ، لهذا أحرص في كل الورش التي أقيمها حول موضوع الكتابة على تنبيه الكتّاب إلى ذلك طالباً منهم أن يكتبوا نصوصاً ممتعة ومشوقة لأن أي كاتب أو مخرج لا يمكن أن يرسل رسائل غير تربوية، مع قناعتي أنه في مسرح الطفل على الكاتب والمخرج أن يقدم الجماليات على الخطاب التربوي لأن الطفل يأتي إليه ليستمتع، وبالتالي عليه أن يحقق الوظيفة الأهم وهي الإمتاع، وأنا في العام الماضي شاركتُ في مهرجان الطفل في الشارقة بمحاضرة كان عنوانها “صناعة المرح في مسرح الطفل” والتي يجب أن يتقنه العاملون فيه قبل يتقنوا صناعة الفكرة التربوية لأنه بتقديري أهم من الخطاب التوعوي، وأرجو ألا يُفهم من كلامي أنني أقصي هذا الخطاب، وهناك تجارب تعي هذا الموضوع وتكتب النص المسرحي وتبحث عما هو ممتع دون أن تقع في مطب المباشرة في التوعية والخطاب التربوي.
*كاتب ومخرج وممثل وناقد.. ما الذي يجعلك تجمع بين كل هذه الانشغالات؟
**اعتليت خشبة المسرح في عمر الـ 16 ودرست التمثيل في كلية الفنون الجميلة-قسم الفنون المسرحية ثم نلت درجة الماجستير في الإخراج والدكتوراه في الأدب والنقد المسرحي، لذلك أنا لا أمارس هذه الأعمال عن عبث بل درست كل هذه الاختصاصات وأدرّسها حتى اليوم في كلية الفنون.. من هناأعتز بوصفي رجل مسرح لأنني عندما خضتُه كان ذلك بدراية واحترافية وعن معرفة.
**كيف تتعامل كمخرج مع نصوص الآخرين ومع نصك الذي تخرجه؟
**يكون الموضوع أسهل عليّ عندما أخرج نصاً من كتابتي، ولكن هذا لا يعني أنني لا أتصدى لها بالحذف والتعديل والإضافة بما يتناسب ومتطلبات الفرقة والخشبة والوقت والمزاج، أما عندما أخرج نصاً من كتابة الآخرين فالمهمة تصبح أصعب لأنني يجب أن أستأذن من كاتبه لإجراء التغييرات والتعديلات والإضافات، وهذا يتطلب أحياناً جهداً كبيراً.
*ماذا تحدثنا عن المسرح العراقي؟
**استفدنا كثيراً في العراق من المسرح السوري، ومنذ أن كنتُ طالباً وبعد تخرجي كان المسرح السوري يرفدنا بأهم النصوص من خلال المجلات التي كانت تصل إلى العراق ومنها مجلة “الحياة المسرحية” ومنذ أن كنتُ طالباً أنجزت مسرحيات لسعد الله ونوس ورياض عصمت ووليد إخلاصي وفرحان بلبل وممدوح عدوان لأن ما يميز المسرح السوري غزارة نتاج كتّابه وأهمية النصوص التي كتبوها، لذلك فإن المخرجين العراقيين اعتمدوا عليها، وأشير إلى أن المسرح السوري سبق المسرح العراقي الذي وُلِد رصيناً من رحم الكنيسة تحديداً، ثم انتقل إلى بغداد وترعرع في المدارس والفرق المسرحية الحكومية، لذلك ظل خطابه رصيناً وملتزماً وصاحب رسالة،وتقييمي كمختص في المسرح أنه اليوم في الترتيب الأول عربياً إلى جانب تونس وسورية، حيث تتنافس عروضهم في المهرجانات وتنال الجوائز، علماً أنه يوجد في العراق ما يشبه مديرية المسارح والموسيقا في سورية، وهي دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة.