مجلة البعث الأسبوعية

المناهل فلكلور القلوب ومخيلات الشعوب

حلب- غالية خوجة

أن تنهل من السلوك العرفاني، يعني أن تستمر في تقويم أخلاقك، وأن تنهل من العلم يعني أن تزداد معرفة، وأن تنهل من الماء يعني أن تروي ظمأك، فسبحان الله: “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، لذلك، كيفما وأينما كانت المناهل فهي تروي الروح والعقل والجسد، فما أسرارها؟ وكيف أصبحت فلكلوراً شعبياً عاماً في مختلف الأصقاع؟

تنوعت المناهل ووظائفها وغاياتها، فمنها مناهل العلم ومدارسها القديمة كالمدرسة الخسروفية بحلب، ومنها مناهل الأناشيد الروحية كالمعابد القديمة التي انطلقت منها أنشودة “نيكالالأوغاريتية”، ومنها مناهل الماء المخصصة للناس العابرة، وأخرى لسقاية الحيوانات، وهذا ما اشتهرت به على مر الأزمنة البلاد العربية والإسلامية ثم تلتها البلاد الأجنبية، ومن أهم مدن المناهل العقلية والروحية والنفسية والبيئية والاجتماعية والثقافية والفنية والمائية تمثيلاً دمشق وحلب والقدس وغرناطة والقاهرة والجزائر وفاس، ومنها نذكر مناهل بصرى الشام التي بلغ عددها في القرن الرابع الميلادي 1352 سبيلاً، وكل سبيل يزود بكمية 40 متراً من الماء، وأشهرها منهل معبد الحوريات والذي ما زالت آثاره باقية في قلب بصرى، وتذكّرنا بأطياف من عبروا طريق الحرير للتجارة أو الاستشفاء أو لأداء الطقوس الدينية أو للاستزادة من معرفة الحياة والعلم والمجتمعات من خلال السياحة والسفر والترحال.

حكمة وفلسفة الشعوب

أيضاً، عرفت بلدان العالم هذه المناهل ومنها بلغاريا التي يعتبر سكانها المنهل من الأعمال الروحية المجسدة لعمل المعروف والبقاء بخير في ذكريات الناس، واعتادوا مثل العرب أن يكتبوا على مناهلهم كلمات ذات حكمة، منها ما كتب على أحدها في منطقة رودوبا “الحياة ليست إلاّ كأساً فارغاً أمّا مياه الصنابير فلا تزال تجري”، كما أنهم اهتمّوا بالأبعاد الفلسفية الشعرية العاكسة لحالة من التوأمة بين الفناء والبقاء، منها ما نُقش على حجر منحوت وما زال محفوظاً في متحف الإثنوغرافي “إيتار”: “تمسح الريح خطواتنا ثم يسفّنا الوقت. تم بناء هذا المنهل لأن الحجر أقوى منا والماء دائم”.

كلمات حسابيّة وتأملات بصرية

وهذه الكتابات التي تشتهر بها المناهل منقوشة ومزخرفة بأسلوب فني وتشكيلي وحروفي، وذات فضاء عميق للمعنى الذي يلخّص رحلة الحياة العابرة القصيرة لتبدو وكأنها شربة ماء لعابر سبيل أو مسافر أو راحل أو عابر للحياة، ولتحفر اسم فاعل الخير ومن بناها وتأريخ إنشائها سواء بوضوح ومباشرة، أو بطريقة رمزية شعرية تعتمد على طريقة حسابية خاصة للحروف لتكشف عن نفسها، وتضيف جمالية أخرى لفن المعمار وأساليبه البنائية التراثية والزخرفية الحجرية ونقوشه الأقرب إلى الفسيفسائية، مما يجعل المنهل لغة بصرية تدعو إلى التأمل وشرب الماء براحة نفسية.

خرافات عالمية

كما أن الشعوب وضمن مخيلتها نسجت حول المناهل الكثير من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، منها أنها جعلت لكل مصدر مياه كائناً خاصاً به هو صاحبه، قد يكون ثور الماء، أو الحوريات، أو الحصان المجنّح، أو العفريت بعينيه الحمراوين المفتوحتين اللتين تخبران العطشان بأنه نائم فليقترب ويشرب ويهنأ، أمّا لو كانتا مغمضتين فتعنيان أنه مستيقظ ولا بد من الحذر وتأجيل شرب الماء، أو الابتعاد نأياً بالنفس!

وتتوارث الشعوب حكاية إحدى القرى التي تذهب فتياتها في توقيت معين إلى المنهل لتتحوّلن إلى حوريات، بينما هناك حكاية أخرى تقول: لا تبني دون ظل إنسان لأن ما ستبنيه في النهار سينهدم في الليل، ولذلك لا بد أن تترك ظلّ إنسان في البناء كي لا ينهدم، وهي كناية عن ضرورة وجود الأثر الإنساني الإيجابي ليظل العمل قائماً.

مآثر عربية

لقد عرفت العرب المناهل المختلفة لأنها من أوائل من أسسها واهتم بها وتفنّن في بنائها وزخارفها والكلمات المكتوبة عليها، وحولتها إلى إيقاعات حياتية لتظل مآثرها الحضارية عابرة للأزمنة والأمكنة، وألّفت لها الأغاني والأناشيد.

ومن هذه المآثر أن مناهل المياه انتشرت منذ عصر الخلافة لتسقي العطاش في أماكنها العامة ومنها المساجد والمدارس والحدائق والشوارع والأحياء والأسواق، واشتُهرت بها مدننا العربية،وأقدمها دمشق وحلب اللتان لا تخلو منهما مسافة طريق إلاّ ويكون هناك علامة من علامات الخير والصدقة الجارية والإحسان ومنها المنهل.

رواية مائية حلبية

رائحة الهواء المبلّلة بالماء تجذبنا، وتذكّرنا بنهر قويق وامتداداته التي تسقي ما حوله، وبالآبار الجوفية التي تعرفها البيوت العربية القديمة، وبحنفيات الماء الحديدية والحجرية العامة بين الأحياء والأزقة والتي ما زالت موجودة في الأماكن العامة ومنها الحدائق، وتذكّرنا بكل تأكيد بمناهل حلب الكثيرة التي تمتاز بالاهتمام بشكلها العمراني الأنيق المزين بالرسوم والزخارف والمنحوتات والفسيفساء والقناطر واللغة العربية التشكيلية لآيات قرآنية، أو لأبيات شعرية، وغالباً ما تكون توثيقية للمنشئ والباني واليوم والعام بالتقويمين الهجري الميلادي.

قناة حيلان

وقديماً، كثرت هذه المناهل والسبُل أو القساطل حول مصدر مياهها الأول ” ينابيع قناة حيلان” التي كانت تزود حلب بالماء، وتوزعت حول قنواتها وشبكاتها، وبدأت مع أحواض الماء التي تسمى قساطل، ويذكر التأريخ أن أول حوض ماء مع منهله شيده السلطان غازي والي حلب آنذاك، ويقع داخل باب الأربعين، تحت التكية، قرب الخندق الروماني، وطوله 20 متراً، وله طرفان شرقي وغربي، وكل منهما ينتهي بقبة وقناتين، وبعد فترة، امتدت القناة المائية إلى باب النصر وتمّ تشييد حوض بطول أربعة أمتار وثلاثة أنابيب، ووصلت مياه هذا الحوض-القسطل إلى حي “بحسيتا” الذي تمتع بسبيلين.

وبالمقابل، امتد فرع القناة الرئيسي من باب الأربعين إلى مدرسة العصرونية وجامع الحيات، بينما استمر فرعها الثاني إلى السويقة، وفرعها الثالث إلى مدينة حلب القديمة وما حولها مكملاً مسيرته إلى حي “البلاط”، وكان هناك سبيل مقابل شارع الملك الظاهر.

تقنيات هوائية للتبريد

ولقد ارتبطت الأسبلة بتفرعات هذه القنوات ومنها سبيل حديقة السبيل المبني عام 1762 ميلادية وكأنه غرفة تبريد للمياه من خلال دراسة فنية لمرور تيارات الهواء، وهو ما نلاحظه في سبيل قسطل باب الفرج، وسبيل العزيزية.

ونظراً لمكانة حلب الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية والمعرفية والعلمية والتأريخية والحضارية ووجودها كمحطة هامة على طريق الحرير، ونظراً لمناخها الصحي هواء وماء وخضرة، فإنها ما زالت تجذب أهلها وقاصديها والسائحين، لتحكي لهم عن ذكرياتها، ومعاناتها مع الغزاة، والحروب، والزلازل أيضاً، كما تحكي لهم عن شموخها وكرمها وضيافتها وطقوسها اليومية واحتفالاتها في المناسبات المختلفة، وكيف تشهد الحجارة الواقفة والأنقاض على تعاون أهلها وعزتهم وتضافرهم في جميع الظروف الإنسانية.

وللذاهب إلى قلعة حلب أن ينعطف إلى يمين سبيل خان الوزير “وأسقيناكم ماءً فراتاً”، ليجد كيف تختلط روائح الأبنية الأثرية وحكاياتها وأعشابها وأزهارها مع رائحة الحكايات وتفوح بذكريات من كانوا هنا، ليستمر في سردها الساكنون في البيوت والباعة في المحلات، ومياه السُيل المنتشرة في الأحياء الشعبية الأخرى مثل قسطل الحرامي.

ولأهل الخير في حلب لمساتهم الفنية أيضاً، ولذلك، اهتموا ببناء الأسبلة لتكون مياهها مشتهاة، سواء كان مصدرها السابق قناة حيلان أو المطر أو مياه الأرض، وحالياً مياه شركة المياه، لأن المثل الحلبي يقول: “العين قبل الفم”، ومن الذوق الرفيع أن تقدم للشارب مياهاً نقية من سبيل يبدو وكأنه لوحة فنية معمارية منقوشة ومحفورة ومزيَّنة مثل سبيل أحمد بيك بحي “القصيلة” التراثي العريق، داخل باب المقام، المبني عام 1828 ميلادية، والذي ذكره الشيخ كامل الغزي في كتابه “نهر الذهب في حلب”: هو سبيل حافل له شبّاك كبير على الجادة الكبرى، وآخر على زقاق الحوارنة وفي وسطه الصهريج العظيم الذي يُسقى منه، مكتوب على جانبي شباكه المطل على الجادة: “بسم الله الحمد لله الذي أنشأ هذا السبيل على يد الأمير الجليل أحمد بك أفندي إبراهيم باشا زاده الله الحسنى وزيادة سنة 1243 هجرية”.

وما زالت هذه الفنيات توظف في الأسبلة التي بدأت تعود حية في حلب مع مياهها بالتدريج بعد الحرب الظالمة على وطننا، لتؤكد بأن الحياة لا تتخلّى عن جذورها الكريمة في هذه المدينة المتجذرة بالعراقة، المتجددة بالطيبة والكرم والمحبة مثل قلوب أهلها التي لا تستسلم لليأس والكآبة والانهيار، بل تفتح أجنحتها على اللحظة، وتتجول بين ساحة الحطب والفيلات والحديقة العامة والأسواق والأبواب القديمة مثل باب الجِنان وباب الحديد وباب الفرج وباب النصر، تتجول منشدة كع إرثها اللا مادي المحلي العالمي الإنساني: “اسقِ العطاش تكرّماً”.