محمد عادل عبد الله: مختار الرصيف في شارع العابد
تمام بركات
بين بيته الواقع في أعلى جبل قاسيون، وشارع العابد في دمشق، قضى ما مضى من عمره، وما سيمضي، يهبط صباح كل يوم منذ أكثر من 50 عاماً، راجلاً، وكأنه الحكم الذي لا يرد، ولكن من قاضي المحبة، قابضاً بإحكام على عدة أكياس، تحوي بداخلها نسخاً من كتب وأعداد نادرة من الصحف المحلية والعربية، لزبائنه الدائمين الذين أوصوه عليها.
قبل أن يصل إلى مكانه المعتاد بجانب مقهى الروضة، حيث يتخذ ومنذ سنين طويلة، من مدخل أحدى العمارات، مكاناً له، يمر السيد محمد عادل عبدالله، -1952- على جيرانه “العتاق” يرمي السلام، ويطمئن عن الأحوال، يستمع بقلب له أذن إلى هموم جاره السبعيني، الذي هاجر أولاده الخمسة مع بداية الحرب عام 2011، وتركوه مع بيت فارغ إلا من زفراته، معتقدين أن إرسالهم المال، يجعل حياته أفضل، ثم وباهتمام لا يفتر، يستمع إلى جارته الفنانة التشكيلية، التي اتخذت من الشارع مرسماً لها، بما يحمل الأمر من متع حسية ومفاجآت مدهشة للفنان، وما يتضمن عليه من صعاب لا تنتهي، ليس آخرها، إصابتها بضربة شمس أقعدتها عن العمل لأسبوع، وبعد هذه الوجبة اليومية من الأسى، وفي لحظة غير متوقعة، يتردد صدى ضحكة صاخبة في جنبات “الصالحية” و”الحمرا” وبعضاً من “السبع بحرات” وهي ضحكته التي أشعلت وقودها النفسي، نكتة أخبره بها جاره الشاب، قبل أن يرن الصمت لبرهة في المكان، ثم يعود الصخب من جديد لشارع العابد، بعد أن يقوم عادل بترتيب مكانه وتجهيزه للعمل.
عام 1928 قام والده بإقامة كشك لبيع الصحف في شارع العابد، وكان من نقاط العلّام الشهيرة في دمشق، حتى أن من يريد أن يترك خبراً أو رسالة أو أمانة، لشخص ما لم يجده، كان يتركه معه، ريثما يحضر من يعنيه الأمر ويستلمه، وهكذا عُرف بائع الصحف في شارع العابد الدمشقي، عربياً بل وفي العديد من دول العالم، من قبل المسافرين، الذين كانوا يقصدونه لشراء الصحف، وترك أمانة ما لقادم في يوم ما. وهذا ما ورثه أيضاً السيد عادل عن والده، مع “المصلحة” كما يسميها.
عام 1960، سينضم الفتى الأسمر الصغير إلى والده في العمل، وهناك سيتعلم الكثير والكثير من كل شيء، تعلم أن يضع الصبر كنواة صلبة تحت الأضراس، فالأيام تتغير، والأحوال ليست محكومة بالثبات، تعلم أن القناعة منطق حياة، وليست شعاراً أو مفردة في حكمة، ومن أهل التجارب والخبرة، كان الفتى يكتسب في كل يوم معلومة جديدة، أو منطقاً مختلفاً، لكن هذا لم يجعله سعيداً بل منشغلاً، أما ما جعله سعيداً فعلا كما يقول، فهو تعرفه على العالم من خلال الصحف والكتب، هناك وجد الفتى ضالته، وعندما وجدها بقي حيث وجدها بقية عمره.
لا يتذكر عادل أنه غادر دمشق لأي سبب، ولا يتذكر أيضاً يوم عطلة من عمله في شارع العابد، والذي لا يستطيع أن يعتبره عملاً، بقدر ما هو جزء أصيل من روحه وجسده، “هل تستطيع أن تعطل جزء من روحك” هذا كان جوابه على كل استغراب من كونه لا يوم عطلة لديه، لا عن رضا ولا عن غيره.
“الكورونا” وجه الضربة الأقوى للرجل، توقف إصدار الصحف محلياً وفي العالم، “لكنهم لم يوقفوا إصدار النسخ الحديثة من الأجهزة الذكية، ومن تطبيقات التواصل الغير اجتماعي” يحكي عادل هذه الفكرة، ويكمل بأن العالم يتجهز ليبدو نسخاً متشابهة بلا أي فرادة أو خصوصية، وهذا أكثر ما يخشاه على “دمشقه” على مكانه الأزلي في شارع العابد، على الأجيال الجديدة من جيرانه، والتي يرى أنها مستلبة ومصادرة من التكنلوجية، التي استباحت في رأيه، كل شيء حرفيا، حتى النوايا.