المصالحات العربية والإقليمية.. إطار يحفظ المصالح المشتركة
د. معن منيف سليمان
تحوّلت سياسة القوى العربية والإقليمية من سياسة التنافس الحاد إلى خفض التصعيد وعقد المصالحات فيما بينها، بفعل زيادة تعقيد أزمات المنطقة التي انعكست سلباً على العلاقات بين دول الإقليم وأثّرت على أمنها واستقرارها. ذلك أن تصفير المشاكل والبحث عن إطار يحفظ المصالح المشتركة بات ضرورة ملحّة يفرضها السعي الجاد نحو توفير بيئة أمنية مستقرّة تسمح بالتفرّغ لمواجهة التحدّيات الاقتصادية المتزايدة، في ظلّ علاقات دولية جديدة تتمثّل في تراجع الدور الأمريكي في منطقة “الشرق الأوسط” وتنامي دور كل من الصين وروسيا.
أسهمت عدّة عوامل في الاتجاه نحو التهدئة، وتخفيض التوتّر وعقد المصالحات العربية والإقليمية، فقد أدّى ارتفاع تكاليف الصراعات في المنطقة إلى اتجاه الأطراف الإقليمية للتهدئة، والدخول في مفاوضات أو حوارات مباشرة لتسويتها، حيث أدّت التدخلات التركية والخليجية في العديد من الأزمات العربية، وخاصّة في كلٍ من (سورية، واليمن، والعراق، ولبنان، وليبيا) إلى تنامي أنشطة التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلّحة التي شكّلت تهديداً لوحدة وتماسك تلك الدول، كما شكّلت أيضاً تهديداً لأمن واستقرار المنطقة.
ويُشكل استئناف العلاقات الدبلوماسية أحد أبرز تداعيات المصالحات الإقليمية، فالاتفاق السعودي – الإيراني برعاية الصين، شمل أحد بنوده استئناف العلاقات بينهما، كما عادت العلاقات الدبلوماسية بين غالبية الدول العربية وسورية، وعادت سورية إلى الجامعة العربية، وفي هذا السياق، شارك السيد الرئيس بشار الأسد في أعمال القمّة العربية الثانية والثلاثين التي عُقدت في 19 أيار 2023 بمدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية.
ويُعتقد أن يؤدّي إنجاز المصالحات الإقليمية لإرساء مبدأ الإقليمية الجديدة التي تقوم على التعاون ما بين الدول العربية ودول الجوار الإقليمي. وربما تُشكل المصالح الاقتصادية تعزيزاً لإرساء تلك الإقليمية الجديدة التي يجسدها، على سبيل المثال، انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والتنمية الذي شهد حضوراً مكثفاً للقوى الإقليمية المعنية بالشأن العراقي. أو على مستوى التعاون ما بين الدول العربية كقاطرة للتكامل العربي الذي تجسده آلية التعاون الثلاثي ما بين مصر والعراق والأردن التي تشكّلت بالقاهرة في آذار 2019.
ولا شك أن مثل تلك التفاعلات أسهمت في استعادة العراق لدوره كجسر للوساطة بين المتنافسين، وهو ما تجسّد في دعم المصالحة بين إيران والسعودية، إذ استضاف العديد من جولات الحوار بين السعودية وإيران على مدار عامين (2021- 2022) لتقريب وجهات النظر بين البلدين قبل أن تتدخل الوساطة الصينية لتحسم تنفيذ الاتفاق أو ما وصفه البعض باللمسة الأخيرة.
من المُحتمل أن تُسهم المصالحات الإقليمية في الحدّ من التنافس الدولي أو توظيف صراعات دول الإقليم في التنافس الدولي، على إعادة تشكيل نظام دولي تسعى القوى المتنافسة على قمته لجعله متعدّد الأقطاب، وبديلاً لسيطرة القطب الواحد.
مجمل القول أن إنجاز المصالحات الإقليمية يعود إلى إنهاك الأطراف الإقليمية من الصراعات المعقّدة التي استنزفت قدرات الجميع، وأنتجت معادلة لا غالب ولا مغلوب، وعكست الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الدولة العربية وتماسكها والحفاظ على سلامتها الإقليمية.
ولكن، على الرّغم ممّا يبديه بعض المراقبين السياسيين من تفاؤل بشأن المصالحات العربية الإقليمية، إلا أنه من الأهمية الأخذ بالحسبان أن هذه المصالحات لن تنهي بشكلٍ فوري الصراعات والأزمات في المنطقة، ويرجع ذلك بالأساس إلى تعقّد هذه الصراعات وانخراط العديد من القوى والأطراف الدولية والإقليمية فيها، وتنامي دور التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة المتطرفة، ما أدّى إلى تفاقم هذه الصراعات والأزمات وزيادة تعقّدها، وتعثّر المساعي الإقليمية والدولية لإيجاد تسويات سياسية لها.
إن التقاربات والمصالحات الإقليمية قد تكون كافية في مرحلة ما، لكنها قد لا تناسب مرحلة أخرى، فالانتقال من التوتّر أو تجنّب ما يؤدّي إليه السلام البارد هو إنجاز مهم، لكنه لا يكافئ التقلبات في النظام الدولي، وظهور تحدّيات جديدة كالأزمة الجارية في السودان حالياً. فلا بدّ إذن من التقدّم نحو إطار منظّم يحفظ المصالح المشتركة يمكنه تنظيم وترتيب ثورة المصالحات الإقليمية الكاملة.