“مصيدة الديون”.. هل تعلّمت الدول الناشئة درسها
تقرير إخباري
يعاني العالم بأسره من مشكلات زيادة التضخم وتباطؤ النمو والنشاط الاقتصادي وانتشار السياسات النقدية المشدّدة التي لا يستطيع معها الأفراد أو الدول الحصول على أموال أو قروض بكلف بسيطة كما فيما مضى، فقد حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن “نصف العالم يغرق في كارثة تنموية تغذيها أزمة ديون ساحقة، حيث إن نحو 3.3 مليارات شخص، أي نصف البشرية تقريباً، يقيمون في دول تنفق على فوائد خدمة الدين أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة”، محذّراً من أن الدين العام تحوّل من أداة مالية مهمّة إلى فخ يخلق المزيد من الديون.
إن ارتفاع المديونية في الدول الناشئة والفقيرة بات يهدّد الاستقرار السياسي في تلك الدول وينذر بنشوب أزماتٍ وصراعات داخلها، حيث إن 52 دولة أي ما يعادل 40 بالمئة من الدول النامية تعاني من مشكلة دين خطيرة، وتصطف على طابور إعلان الإفلاس قريباً بعد أن تجاوز الدين العام في العالم عتبة 92 تريليون دولار في عام 2022.
وفي البحث عن جذور المشكلة نجد أن سياسات كبريات الدول هي المسبّب الأساسي لتلك الأزمات؛ إذ تعمد هذه الدول ذات العملات التي تتمتع بنفوذ وقبول عالمي كأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي واليابان، لطبع كميات ضخمة من الأموال وضخّها في أسواقها بأسعار فوائد قليلة جداً ووفق تسهيلات كبيرة تؤدّي لتراكم الأموال في أسواقها وخروجها عبر المستثمرين إلى الدول النامية لشراء سندات خزينة بعملاتها المحلية وبأسعار فوائد عالية جداً، أو تنفيذ مشاريع فيها عبر صناديق استثمارية أو ما يسمّى “الأموال الساخنة”، ومن ثم تعمد الدول الكبرى لتشديد سياساتها المالية ورفع أسعار الفائدة بعد دورة من التسهيلات، ما يُجبر المستثمر على وقف مشاريعه بسبب شحّ الأموال وارتفاع الفائدة عليها، كما يجبر ذلك السلوك أيضاً عدداً من أصحاب رؤوس الأموال على ترك أسواق الدول الناشئة وإيداع أموالهم ضمن بنوك الدول الكبرى، ما يؤدّي إلى توقّف المشاريع في الدول الناشئة وخروج العملات الصعبة من أسواقها، وانهيار سعر صرف عملاتها المحلية.
إن الدول الناشئة تقع في أزمات الدين وبشكل متكرّر عندما يكون لدى الدائن أموال كثيرة، حيث تكرّر هذا المشهد عالمياً للمرة الرابعة في غضون خمسة عقود دون استخلاص العبر ممّا حصل، وما عزّز ذلك أن الدول باتت مرغمة أمام تداعيات أزمتي كورونا والحرب الأوكرانية على الوقوع في هذا الفخ والاقتراض مجدّداً، فبتنا نشاهد دولاً ناتجها القومي يساوي مستوى ديونها أو ربما يزيد عليه، وأصبحت أغلبية الدول الناشئة تسجّل مستوى دين خارجي يساوي 35% من حجم نواتجها المحلية، والكارثة الأكبر تكمن في حلول موعد سداد هذه الديون مع تفاقم مشكلات نقص الإنتاج المحلي، وبالتالي ساهم ذلك في زيادة أسعار الغذاء والمواد الأساسية في تلك الدول نتيجة عدم قدرتها على الاستيراد بسبب الضغط على العملات الصعبة في أسواقها.
يُضاف إلى هذه المشكلة أن مسألة التعثّر باتت ظاهرة معدية ضمن الدول الناشئة؛ فمشهد إفلاس سيريلانكا أيقظ مخاوف أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين لدى أي دولة تنتهج النمط الاقتصادي ذاته، ما أدّى إلى خروج رؤوس الأموال من تلك الدول وتوجّهها نحو بنوك الدول الكبرى قبل أن تعاني من مشكلات الإفلاس.
وفي النهاية، الحل المتاح أمام الدول لتجنّب هذه الأزمات هو اتباع سياسات مالية تتضمّن ترشيد الاستهلاك والاستيراد وتنمية الإنتاج المحلي، فضلاً عن العنصر الأهم وهو امتلاك احتياطي كبير من العملات الصعبة، وخير مثال على ذلك الصين التي أصبحت تمتلك في غضون 30 عاماً أكثر من 3 تريليونات دولار كاحتياطي نقدي، وهو قادر على عزلها عن أي أزمات مالية تحدث ضمن الدول الناشئة لوقت طويل، كما يجب على الدول عدم الاقتراض مهما كانت التسهيلات كبيرة إلا لبناء استثمارات حقيقية لتجنيب شعوبها دوراتٍ من الفاقة والمخاطر.
بشار محي الدين المحمد