هل تنفع زيارة كيسنجر؟
تقرير إخباري
استُقبل السياسي الأمريكي السابق والمخضرم هنري كيسنجر استقبالاً حاراً خلال رحلته إلى الصين، حيث يمكن اعتبار كيسنجر مرآة تعكس تغيّرات العصر. وعلى الرغم من أن جيل الشباب لا يحبّون في كثير من الأحيان الاستماع إلى كلمات كبار السن، لكن الوقت يثبت في الأغلب أن كلماتهم تثبت صحّتها.
كان كيسنجر أحد المهندسين الرئيسيين للسياسة الخارجية الأمريكية خلال ذروة الحرب الباردة، ما جعله أحد أكثر النخب الأمريكية المؤهّلة للحديث عن تلك الفترة. كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق في ذلك الوقت في حالة مواجهة شديدة، وعمل كيسنجر خلال تلك المرحلة على الدفع من أجل تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ما أدّى إلى قلب التوازن الاستراتيجي تجاه الولايات المتحدة. وبعد ذلك، أصبحت الكتلة السوفييتية معزولة أكثر، وبدأت قدرتها التنافسية تتضاءل تدريجياً، ما أدّى إلى اضطرابها الداخلي وهزيمتها في نهاية المطاف في الحرب الباردة.
اليوم، تخوض الولايات المتحدة مواجهاتٍ متزامنة مع كل من الصين وروسيا، ويحاول الجيل الجديد من النخب السياسية الأمريكية تكرار إطار الحرب الباردة والانتصار الذي شارك فيه جيل كيسنجر. لكن بنية السلطة والمصالح في الساحة الدولية خضعت لتغييرات عميقة، كما أن القوة الدافعة للسياسة آخذة في التغيّر، الأمر الذي أدّى إلى إثارة شكوك معيّنة لدى كيسنجر بشأن السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، ونصح خلفائه بعدم التصرّف بتهوّر فيما يتعلق بالعلاقات بين الصين والولايات المتحدة.
ستواجه الولايات المتحدة صعوباتٍ أكبر في شنّ حرب باردة جديدة مقارنة بالحرب السابقة، ففي سبعينيات القرن الماضي، كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يمثل ما يقرب من ثلث الإجمالي العالمي، لكنه الآن يمثل الربع فقط. إضافةً إلى أن منافسيها الرئيسيين هما قوى نووية عظمى وقوى اقتصادية عظمى.
إن هزيمة روسيا أمر سيكون بمنزلة مغامرة، وخاصةً أن هناك دعواتٍ متزايدة بالفعل داخل روسيا لتعزيز ردعها النووي للردّ على الغرب. وفي هذا السياق يمكن اعتبار توسّع الناتو بقيادة الولايات المتحدة والضغط الأقصى على روسيا بمنزلة مجازفة خطيرة، وهذه المجازفة تقترب من ذروتها.
المجازفة الأخرى للولايات المتحدة تستهدف الصين، حيث تحاول خنق تنمية الصين من خلال فرض قيود تكنولوجية غير محدودة، لكنها لا تجرؤ ولا تستطيع أن تنفصل اقتصادياً عن الصين، إذ تعدّ الصين بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الرئيسيين، إما أكبر شريك تجاري منفرد وإما أحد أكبر الشركاء التجاريين.
اليوم، الولايات المتحدة هي معتدٍ استراتيجي متهوّر، يسعى لشنّ حرب باردة جديدة في حالتها الأضعف من خلال توحيد حلفائها. وتجدر الإشارة إلى أن قوة حلفاء الولايات المتحدة تراجعت أيضاً بشكل كبير، ومن الصعب الحفاظ على وحدة “الغرب” بسبب تحوّل الولايات المتحدة من “مانح” إلى “مصّاص دماء”.
وأوروبا، التي أضعفت بشدة، محاصرة بالمخاطر الأمنية ومليئة بالقلق بشأن تنميتها، كما أن لديها مصالح كبيرة في علاقتها مع الصين، ما يجعل من المستحيل على أوروبا تبنّي سياسة موحّدة تجاهها تتوافق تماماً مع الولايات المتحدة، بينما في المواجهة مع الاتحاد السوفييتي، لعبت أوروبا دوراً حاسماً في خط المواجهة، تماماً كما تفعل اليوم في التعامل مع روسيا.
لا تواجه أمريكا والغرب اليوم التحدّيات الجيوسياسية ذاتها التي طرحها الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، حيث تكمن مشكلتهم في تآكل قدرتهم التنافسية التي بدأت في التراجع، وأكثر ما يحتاجون إليه هو الإصلاح الذاتي. ومع ذلك، تعتزم الولايات المتحدة عكس عقارب الساعة من التطوّر الاقتصادي من خلال الوسائل الجيوسياسية وإعادة تشكيل النظام العالمي للمنافسة الاقتصادية والتكنولوجية.
غالباً ما تكون نقطة نهاية الجغرافيا السياسية هي الحرب، والمخاطرة في نهاية الحرب هي الصراع النووي، وقد تدفع واشنطن بالبشرية إلى حالة من عدم اليقين أكبر بكثير ممّا كانت عليه في حقبة الحرب الباردة السابقة.
من هنا، لا تستطيع الولايات المتحدة التعامل مع حالة عدم اليقين الكبيرة هذه، وإذا اندفع المجتمع البشري نحو المخاطر النهائية، فستواجه البشرية مستقبلاً مظلماً، وخاصةً أن هذا الجيل من النخب الأمريكية يسعى بغطرسة إلى تكرار انتصار الحرب الباردة، لكنهم لن ينجحوا أبداً، لأن الولايات المتحدة ستواجه نتيجة مختلفة.
عناية ناصر