المهندس عرنوس أمام مجلس الشعب: نحن جزء من عالم تزداد فيه الأزمات وفي مقدمتها الاقتصادية
دمشق – سانا
النص الكامل لكلمة رئيس مجلس الوزراء المهندس حسين عرنوس أمام مجلس الشعب خلال أعمال دورته الاستثنائية الخامسة للدور التشريعي الثالث، المخصصة لدراسة ومناقشة الواقع الاقتصادي والمعيشي وسعر صرف الليرة السورية.
وفيما يلي النص الكامل للكلمة:
قد يرى البعض أن انعقاد هذه الجلسة استثنائياً اليوم هو لأن الأمر خطير جداً، لكن الواقع يقول إن الخطورة هي الحالة الدائمة والسائدة منذ أن شنّ أعداؤنا حربهم على سورية، لا بل إن التحليلات والحسابات الاقتصادية التي تحدّث عنها أعداؤنا منذ انطلاق الحرب قبل اثني عشر عاماً تشير إلى أنه كان يفترض أن تفلس الدولة السورية، وأن تنهار اقتصادياً منذ عام 2012 لكن الدولة استمرت بمسؤولياتها الاقتصادية بمختلف القطاعات: على مستوى سياسات التوظيف والرواتب والأجور والتعليم والتربية والصحة والكهرباء والقمح والطاقة، إضافة إلى الاستمرار في تأمين الميزانيات للمؤسسة العسكرية بعتادها وقواتها وقد لا يكون تأمين هذه المسؤوليات بالحدود القصوى، لكنها بقيت مؤمنة بالإمكانات المتاحة. والخطورة حقيقة لا تكمن في الظروف التي نعيشها بقدر ما تكمن في عدم قدرتنا على رؤية تلك الظروف وتحدياتها والتعامل معها أو تكمن في رؤيتها ثم إنكارها وتجاهلها، وبالتالي الاستمرار بنفس السياسات دون أي تغيير وكأن شيئاً لم يكن، إن لقاءنا اليوم تحت قبة مجلس الشعب لمناقشة الوضع الاقتصادي وسعر صرف الليرة السورية ينطلق من صعوبة التحديات التي تواجهنا وما تتطلبه هذه التحديات من تحركٍ في إطار سياسات وطنية، وأقول سياسات وطنية لأنها ليست سياسة خاصة بالحكومات، فعندما نطرح الخيارات والمقترحات فهي خيارات ذات بعد وطني ولا تعبّر عن رؤية هذه الحكومة أو تلك، وهذه مسألة في غاية الأهمية يجب أن ننطلق منها حكومةً ومؤسسةً تشريعية.
منذ بداية الحرب على سورية ونحن نخوض غمار معركة فرضت علينا خياراتٍ متناقضةً فيما بينها إلى أبعد الحدود، وكل خيار له ظروفه ونتائجه المناقضة للخيار الآخر. والآن نحن بحاجة لحوار يتسم بالواقعية والمنهجية وينطلق من توصيف التحديات بعقلانية بعيدة عن العواطف والتمنيات.. السيدات والسادة أعضاء المجلس في ضوء الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يشهدها اقتصادنا الوطني، ولا سيما في ضوء التطورات الأخيرة التي شهدها سوق الصرف، اسمحوا لي أن أستعرض أمام مجلسكم الكريم بعض العناوين والمحددات المؤثرة في السياسة الاقتصادية وما يتعلق منها بسوق الصرف والسياسة النقدية على وجه التحديد والتوجّهات الحكومية حيال صيغة التعاطي معها.
نحن جزء من عالم تزداد فيه الأزمات عمقاً وقسوةً، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية التي تعصف بكل الدول، أزمة تتجسّد بموجة حادة من التضخم وتراجع الإنتاج وارتفاع تكاليف نقله وارتفاع الأسعار، الذي باتت تعاني منه كل اقتصادات العالم دون استثناء، أما تحدّياتنا الذاتية، وإضافة لما سبق من تحدياتٍ اقتصادية فإن حصول الزلزال المدمّر فرض أعباء جديدة على الدولة ومواردها القليلة، وارتفاع تكاليف استيراد مشتقات الطاقة، وارتفاع سعر الصرف والحصار الجائر على سورية، واستمرار خسارة البلاد لأهم مواردها في النفط والزراعة في ظل احتلال شرقي سورية فإن المشكلة في سورية تصبح أضعاف أي مشكلة في أي دولة أخرى.
في السياسات تصبح الخيارات أصعب وأشدّ قسوة كلما كانت أكثر تناقضاً. واسمحوا لي أن أسوق مثالين صريحين حول ذلك الأمر: لقد عملنا خلال السنوات الماضية على لجم ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية، كان ذلك واحداً من سياسات الدولة اقتصادياً، لكن قابل هذه السياسة انكماش وتراجع كبير في الإنتاج لنكون أمام معادلة صعبة.. هل نضبط سعر الدولار ونخسر الإنتاج أم نتبنى سياسة الإنتاج وتخفيف القيود عليه في مقابل ارتفاع سعر صرف الدولار، أما المثال الثاني فهو استمرار الدولة في سياسة الدعم وما تكلّفه هذه السياسة من أعباء مالية كبيرة لتحقيقها ويرافق ذلك هدر سببه الفساد الذي تولّده سياسة الدعم. وقابَل هذه السياسة ارتفاع كبير في عجز الموازنة حتى أصبحنا نموّل الدعم بالعجز وما يعنيه ذلك من مخاطر على الاقتصاد الوطني، كما أن تكاليف سياسة الدعم تنعكس ضعفاً في قدرة الدولة على تأمين المشتقات النفطية، ونقص المشتقات النفطية ينعكس نقصاً في توليد الطاقة الكهربائية، وبالتالي نقص في الإنتاج.
والشيء بالشيء يذكر ولذلك سأطرح مثالاً ثالثاً حول التناقض التام بين الخيارات، وهنا سآخذ مسألة الوظائف والتوظيف والرواتب والأجور. هل نستمر بسياسة التوظيف والاستيعاب الوظيفي على حساب الرواتب والأجور، حيث إنه لا يمكن أن تجمع الدول بين سياسة التوظيف المفتوحة التي تولّد مئات الآلاف من الوظائف في القطاع العام وبين الأجور المُرضية للعاملين في الدولة.
يشهد الاقتصاد الوطني حالةً واضحة من عدم الاستقرار، ربما يكون عنوانها الأبرز هو الارتفاع المتسارع والكبير لسعر صرف العُملة المحلية، وما يرافق ذلك من تراجع القوة الشرائية التي ترهق ذوي الدخل المحدود على وجه الخصوص، إضافة إلى تشوّه بنية آلية التسعير التي أفرزت مستوياتٍ عالية وغير منطقية من الأسعار، ترافقت مع نسب تضخم عالية مصحوبةٍ بمظاهر ركودٍ في بعض القطاعات والأنشطة كمؤشر على ظاهرة الركود التضخمي المركبة التي تستدعي إجراءاتٍ دقيقة بعضها آني وبعضها الآخر استراتيجي، وبعضها محلي الأبعاد وبعضها الآخر خارجي لا تمتلك الحكومة هوامش تحرّك مناسبة حياله كما ذكرنا سابقاً.
بشكلٍ جوهري، يقف خلف عدم استقرار سوق الصرف، فجوةٌ تمويليةٌ واسعةٌ بين الحاجة للقطع الأجنبي لتلبية احتياجات البلد من حوامل الطاقة، ومن القمح ومن المواد الغذائية والدوائية وكذلك من فاتورة مستلزمات الإنتاج من جهة، وبين الكميات المحدودة المتاحة تحت تصرّف مصرف سورية المركزي من جهة أخرى. وكلنا يعلم محدودية موارد القطع الأجنبي في ظل تراجع التصدير، والمعاناة المفروضة على العملية الإنتاجية، ولا سيما بسبب القيود الثقيلة المفروضة على قطاع الطاقة الذي يمنع من استثمار الإمكانات الاقتصادية الكامنة. فهناك طاقات توليد كهرباء معطلة بسبب عدم توفر الغاز والفيول، وهناك معامل ومصانع تعمل بنسب منخفضة من طاقاتها الإنتاجية بسبب عدم توفر حوامل الطاقة، وهناك موارد مائية معطلة بسبب عدم توفر الكهرباء وغير ذلك من التعطيل الممنهج المفروض على اقتصادنا الوطني.
على المستوى السياساتي: ثمة مقاربتان تحكمان إدارة سعر الصرف كأحد أهم المؤشرات في الاقتصاد الوطني، تتمثل المقاربة الأولى في اعتبار سعر الصرف مؤشراً عن وضع الاقتصاد الوطني ومرآة تعكس كفاءة النشاط الاقتصادي الوطني، والتعامل معه كهدف وسيط وليس نهائياً، في حين يتم إعطاء الأولوية الأولى في التوجه الحكومي لتمكين النشاط الاقتصادي الإنتاجي وزيادة قدرته على خلق القيمة المضافة، وتحفيز النمو الاقتصادي وتمكين النشاط الاقتصادي من العمل بارتياح مقابل التضحية النسبية بضبط سوق الصرف، والقبول بمستويات مرتفعة نسبياً من سعر الصرف، بحسبان أن الإنتاج وقوة الاقتصاد الوطني الحقيقي سيكونان كفيلين على المديين المتوسط والطويل بإعادة تقوية العملة الوطنية. ولكلِّ من يقول بأن الإنتاج هو العلاج وهو المخرج الاستراتيجي والحقيقي لتقوية الاقتصاد الوطني ودعم سعر الصرف، نقول إن الحكومة تولي عناية فائقة لدعم الإنتاج والعملية الإنتاجية.
بالمقابل، ثمة مقاربة أخرى تعطي الأولوية لإدارة سعر الصرف في ظل الأوضاع الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وضبطه باعتبار أن عدم استقرار سعر الصرف ينعكس بشكل مضاعف على مؤشرات الاقتصاد الأخرى كالأسعار وتكاليف الاستثمار والتوريدات وغير ذلك. وقد حاولت الحكومة التوفيق بين توفير مقومات النمو الاقتصادي ودعم العملية الإنتاجية من جهة، وضبط سوق الصرف، ولا سيما على صعيد القنوات غير المنتجة كالمضاربة على سبيل المثال من جهةٍ أخرى. حيث تم عقد عدة اجتماعات للفريق الحكومي الاقتصادي لمناقشة السياسات الاقتصادية، ولا سيما النقدية منها، حيث تم تشكيل لجنة فنية (المعروفة باسم لجنة المنصة) مهمتها متابعة سوق الصرف واقتراح الحلول المناسبة لضبط سوق الصرف، وتمَّ منح هذه اللجنة الدعمَ المطلوب لضمان استقرار سوق الصرف. نجحت هذه اللجنة في ضبط سوق الصرف نسبياً خلال السنتين السابقتين وقامت بإدارة كتلة القطع المتوفر لتمويل التوريدات ذات الأولية وفق ما قررته اللجنة الاقتصادية.
مؤخراً تزايدت الملاحظات حول عمل اللجنة المكلفة إدارة المنصة للأسباب التالية:
أـ طول فترة إيداع الليرات السورية حتى يتم تسليم الموردين القطع الأجنبي المقابل، وهذا ما يدفع الموردين لتسديد قيمة التوريدات مرتين، الأمر الذي يتسبّب برفع تكاليف التوريدات.
ب . فرض أعباء إضافية على المموَّلين من المنصة من خلال إلزامهم بدفع فوارق سعر الصرف بين لحظة تسليم الأموال بالعملة المحلية (أو بالقطع الأجنبي)، ولحظة إعادة تمويله بالقطع الأجنبي المطلوب للتوريدات، وهذا ما يحمّل التوريدات أيضاً أعباءً إضافية تنعكس بمجملها على المستهلك النهائي.
ت ـ تقييد مصادر التمويل ولا سيما الخارجية جرّاء التدقيق على مصادر التمويل وطلب الثبوتيات التي تبين مصدر هذا التمويل للتأكد من أنه تم من مصادر كفؤة وسليمة.
ث ـ صعوبات تخليص المستوردات وتراكم بعض الحاويات في المرافئ السورية وتكبد المورِّدين أعباء إضافية، تنعكس على المستهلك في نهاية المطاف كما ذكرنا أعلاه.
على ضوء ما سبق عقدت سلسلة اجتماعات مع ممثلي قطاع الأعمال وتلخصت مقترحاتهم بإخراج عدد من المواد خارج المنصة والسماح لهم بتمويلها من مصادرهم الذاتية، على أمل انخفاض أسعار هذه التوريدات (بنسب تقارب 30%)، وقامت اللجنة الاقتصادية ومصرف سورية المركزي بإخراج عدد من المواد المستوردة من قائمة التمويل عبر المنصة. ترافقت مثل هذه التسهيلات بالضغط على سوق الصرف من خلال توجه الكثير من المستوردين إلى السوق غير النظامية للحصول على القطع الأجنبي لتمويل مستورداتهم، وهذا ما أسهم في ارتفاع سعر الصرف بمستويات غير مضبوطة.
في ظل ظروف تمويل المستوردات المذكورة أعلاه، وفي ضوء مطالب قطاع الأعمال بتجاوز عمل المنصة تجنّباً لتجميد مبالغ تمويل المستوردات وتفادياً لتكبّد خسائر فروقات سعر الصرف، عقدت اللجنة الاقتصادية خلال الشهر الماضي سلسلة اجتماعات نوعية تم خلالها إعداد ورقة سياسات موسّعة حول السياسات الممكنة لإدارة فجوة التمويل، ولإعادة صياغة عمل اللجنة المذكرة- لجنة المنصة- ومهامها.
تم تحديد وتحليل أهم العوامل المتحكمة في سعر الصرف، بين أسباب بنيوية تراكمية من جهة وأسبابٍ طارئة مستجدّةٍ وفق الآتي:
ـ أثر العوامل الاقتصادية الضاغطة الناجمة عن تراكم الاختلالات في الاقتصاد السوري للأسباب الخارجية والداخلية المذكورة أعلاه.
ـ الأثر الناجم عن العوامل النفسية والإعلامية الخارجية، والتي كان لها دور كبير في المساهمة في إحداث تقلبات مفتعلة في سعر صرف الليرة السورية، بالتوازي مع عمليات المضاربة في الأسواق المحلية والمجاورة، وهذا ما شكل عاملاً من الصعب التعامل معه بأدوات أو إجراءات نقدية مجردة، لا بل كان دوره السلبي يفوق أحياناً دور العوامل الاقتصادية.
ـ اللجوء إلى سياسة التمويل بالعجز لتغطية نفقات الحكومة الإدارية رغم ضعف الموارد عن طريق الاقتراض المتواصل من مصرف سورية المركزي، وهو ما انعكس سلباً من خلال تراكم عجوزات الموازنة وارتفاع حجم الدين العام الداخلي إلى مستويات تضخمية قياسية تهدّد الاستقرار الاقتصادي كله، ولا سيما أن هذه السياسة تؤدّي إلى زيادة في المعروض من الليرة السورية لا تتناسب مع وضع الاقتصاد السوري الإنتاجي، وبالتالي تؤدّي إلى تراجع قيمة العُملة المحلية وزيادة هامش المضاربة عليها، ولكن من الصعب أحياناً في بعض الظروف كالتي نمر بها تجنّب بعض السياسات ذات الأثر السلبي التي لا مفر منها.
ـ شُحّ موارد مصرف سورية المركزي من القطع الأجنبي نتيجة تراجع الوضع الاقتصادي والمالي للحكومة وتدهور عوائد القطاعات المورّدة للقطع الأجنبي كالسياحة والنفط والصناعة والمواسم الاستراتيجية وغيرها، بالتوازي مع ارتفاع تكلفة دعم الاقتصاد عند مستوياته التشغيلية المتدنية.
ـ الأثر السلبي للطلب الموازي على القطع الأجنبي لتمويل السلع المهربة، إذ تؤدّي المشكلات الاقتصادية في أي بلد إلى اتساع نشاط السوق الموازية، والذي لا يقتصر على سوق العملات، وإنما يمتدّ ليشمل سوقاً أوسع هي سوق السلع وحتى الخدمات، حيث إن فجوة العرض وانكماشه مقارنة بحجم الطلب المقابل تؤدّي إلى اتساع نشاط التهريب عبر الحدود والمنافذ غير الشرعية وغير الخاضعة لرقابة وضبط الدولة ومؤسساتها بهدف سدّ جزء من هذه الفجوة في العرض والاستفادة من الفروق السعرية الناجمة عن توفير وتلبية الاحتياجات من السلع والخدمات (غير المتاحة أو التي من الصعب الحصول عليها في ظل ظروف الحصار)، حيث اتسع حجم هذه الظاهرة لعدة اعتبارات اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية، غير أنها باتت في الآونة الأخيرة تشكّل تهديداً كبيراً للعُملة الوطنية، ولاسيما مع انتشار ظاهرة تهريب السلع المسموحة بالاستيراد، وذلك تهرّباً من إجراءات التمويل عن طريق المنصة للأسباب آنفة الذكر.
بناءً على تحليل المعطيات المذكورة أعلاه، تم التوصل إلى سلسلة من القرارات ومن مشاريع الصكوك التشريعية التي تعطي المزيد من الارتياح لقطاع الأعمال ولتوفير التمويل اللازم لعملية الاستيراد وفق أهم الملامح الآتية:
1ـ تخصيص القطع الأجنبي المتوفر تحت تصرّف مصرف سورية المركزي لتمويل قائمة المواد الأساسية التي تم إقرارها في اللجنة الاقتصادية بشكل مباشر ودون أي تأخير ودون أي أعباء مالية ناتجة عن فروقات سعر الصرف، حيث يتم إقرار سعر الصرف وتحديد مكافئ المبالغ المسلمة من العملة المحلية بالقطع الأجنبي بشكل مباشر.
2ـ تحديد قائمة مواد ثانية يتم تمويلها عن طريق شركات الصرافة بمدة تأخير لا تتجاوز 15 يوماً وبهوامش تحرّك سعر صرف محدّدة مسبقاً تضمن تخفيف الضغط عن الطلب على القطع الأجنبي في السوق، وتساهم في تلبية متطلبات الاستيراد بمعايير شفافة وواضحة وعادلة.
3ـ يتم تمويل بقية قوائم الاستيراد (والتي تشكل الجزء الأكبر من المواد المستوردة) من خلال مصادر التمويل الذاتية لدى المستوردين دون الحاجة للمرور عبر المنصة.
4ـ تمت إعادة تشكيل عضوية لجنة المنصة، بحيث تقتصر على حاكم مصرف سورية المركزي، وممثلي شركات الصرافة المرخصة أصولاً بشخصياتها الاعتبارية، تماشياً مع العمل المؤسساتي.
5ـ تم تحديد مدة عمل لجنة المنصة بعام واحد، وتقوم اللجنة بتقديم تقارير دورية إلى اللجنة الاقتصادية حول آلية عملها مع مقترحات تطوير الأداء، بما يضمن حسن سير العمل.
6ـ قامت اللجنة الاقتصادية بمراجعة قوائم الاستيراد واختصار ما يمكن منها، مع الإشارة إلى أن هذه القوائم تضم الحد الأدنى الممكن من متطلبات تلبية احتياجات النشاط الاقتصادي الوطني الاستهلاكي والإنتاجي، حيث تبيّن المعطيات استقرار قيم المستوردات (القطاعين العام والخاص) في السنوات الثلاث الأخيرة (2022،2021،2020) عند مستوى 4 مليارات يورو (تقريباً)، مع ميله للانخفاض عن مستويات العامين 2018 و2019، الأمر الذي يؤكد أن تغيرات سعر الصرف لا يمكن أن تُعزى إلى قيمة المستوردات فقط –مع تأكيدنا أنها ذات أثر جزئي على سعر الصرف- والتي تشكّل (المستوردات) أولوية لحياة المواطن واستمرارية دوران العجلة الإنتاجية.
7ـ بحسبان أن تحديد سعر الصرف وقيمة العملة الوطنية ليست مسؤولية مصرف سورية المركزي فحسب، فقد تمّت مخاطبة كل الوزارات بكتب رسمية مشفوعة بمصفوفات معطياتٍ واضحة نطلب فيها تحديد مصادر توليد القطع الأجنبي في البلد، والآليات المطلوبة لتحقيق ذلك، (ولا سيما في قطاعات السياحة، الثروة الجيولوجية والمعدنية، الصناعات الزراعية والغذائية وغيرها).
8ـ على التوازي مع هذه الإجراءات المالية والنقدية، تعكف الحكومة منذ ما يقارب الشهرين على دراسة سيناريوهات إدارة ملف الدعم الحكومية حرصاً على تحقيق هدفين في آن معاً:
الهدف الأول: تحقيق العدالة والكفاءة في تخصيص الدعم وضمان إيصاله إلى مستحقيه وتقييد مظاهر الهدر والفساد في تسويق هذا الملف.
الهدف الثاني: ضمان استدامة تمويل الخزينة العامة للدولة للإنفاق العام، حيث وصل الإنفاق العام إلى مستويات غير مسبوقة ولا سيما بسبب الإرهاق الذي تسبّبه بنود الدعم الحكومي، حيث تجاوز حجم الدعم الحكومي المطلوب بأسعار السوق الحالية ما يقارب 27,500 مليار ل.س، وهذا ما يعدُّ رقماً كبيراً جداً مقارنةً بإمكانات التمويل المتاحة لدى الخزينة العامة للدولة.
بناءً على ما سبق لا بد من التوجه نحو خيار عملي وواقعي بخصوص أسعار بعض السلع الرئيسية المدعومة لتحقيق الهدفين اللذين سبق ذكرهما، مع الأخذ بعين الاعتبار انعكاس أي خيار على قدرة شريحة العاملين في الدولة. وهذا ما يحتاج منا اليوم لحوار متأنٍ وعاقل تحت قبة هذا المجلس.
ولن أتردّد بالقول أمام مجلسكم الكريم، بأن ما يزيد من صعوبات اتخاذ قرارات إعادة هيكلة الدعم هو الفجوة الواسعة والكبيرة جداً بين مستويات أسعار المواد المدعومة من جهة، وتكاليف هذه المواد من جهة أخرى. إن معطيات الواقع قد تتطلب اتخاذ قرارات وإجراءات الهدف النهائي منها هو مصلحة الدولة والمواطن في نهاية المطاف. فاقتصاد الدول لا يدار بالعواطف والرغبات، وإنما يدار على أسسٍ من العقلانية والموضوعية والواقعية.
إن أصعب مشكلة اقتصادية تواجهنا هي في كيفية إدارة الفجوة بين الموارد المحدودة والاحتياجات غير المحدودة. ومن أهم سمات السياسات والبرامج التدخلية الاقتصادية، ولا سيما في ظروف الحرب هو مبدأ “ثنائية الأثر”. فكلّ قرار اقتصادي يتم اتخاذه قد يترافق بآثار جانبية تقلل من فعالية الغاية الرئيسة منه، أو أنه قد يترافق بخلق إشكالية، كبيرة أو صغيرة، في مكانٍ آخر في غير الموضوع الذي يستهدفه.
فعندما تتوجّه الحكومة لضبط سعر الصرف، وتقييد السيولة في الأسواق حفاظاً على القوة الشرائية للعملة الوطنية وحفاظاً على المستوى العام للأسعار في البلد، سيترافق هذا التوجّه مع انكماش في النشاط الاقتصادي وتقييد حركة قطاع الأعمال بشكلٍ أو بآخر.
وعندما يتم اتخاذ إجراءات تسهيلية لقطاع الأعمال، في مسعى لإطلاق النشاط الاقتصادي والسماح بحرية أوسع في تمويل المستوردات، ستترافق هذه الإجراءات بارتفاع في سعر الصرف، وبضغوط تضخمية ملموسة، ومن غير الطبيعي أن نُفاجأ بمثل هذه النتائج والآثار رغم حدّتها.
وإذا كانت الحكومة تتحمّل مسؤولية إدارة سوق النقد والسياسة المالية، فإنها ليست الفاعل الوحيد في هذه السوق. فكما تعلمون جميعاً تشكل مساهمة القطاع الخاص الجزء الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمساهمة القطاع العام. وكما ندرك جميعاً حقيقةَ الانتشار التاريخي والمزمن لاقتصاد الظل، أو القطاعات غير المنظمة في اقتصادنا الوطني، التي تشكّل أرضاً خصبة للتأثير سلباً في استقرار سوق الصرف، سواء لجهة المضاربات والتهريب أو عدم تقدير مؤشرات النشاط الاقتصادي بشكلها السليم والواقعي، مع الإشارة إلى توجّه الحكومة للتعامل مع اقتصاد الظل هذا بشكل منهجي ومخطط من خلال تشكيل لجنة موسّعة تدرس واقعه وسبل التعامل معه، تمهيداً لطرح هذا الموضوع الحيوي على طاولة اجتماعات المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي لاحقاً عند انتهاء عمل هذه اللجنة، لكن مثل هذا التوجّه يحتاج لزمن ليس بقصير حتى يتم إنجازه وأكرّر أسفي أن مثل هذه المنهجية في التعاطي مع القطاعات غير المنظمة لم تجرِ في زمنٍ كان أكثر ملاءمة، وفي ظروف أكثر مناسبةً لإنجازه مقارنة بالزمن والظروف الحالية الصعبة.
فنحن نعاين جميعاً كيف تعمل الدول والشركات لعالمية على تسريح العمالة وتخفيض الرواتب والأجور في ظل الأزمات الاقتصادية، كما نراقب الاحتجاجات التي تشهدها دول أقوى الاقتصادات العالمية من جراء الصعوبات التي تعانيها، وهي التي لم تعانِ جزءاً يسيراً مما يعانيه اقتصادنا الوطني وفق ما ذكرتُ سابقاً. فكيف تتم مطالبة الحكومة بالاستمرار بتقديم الدعم الشامل والعام بآلاف المليارات من الليرات السورية كما كانت عليه الحال عندما كان الاقتصاد الوطني مستقراً ومعافى؟ وكيف يمكن المطالبة بالاستمرار بتقديم الدعم الواسع والعام لقطاعات الصحة والتعليم والتربية وخدمات الكهرباء والمياه، والنقل الجماعي والتي تتطلب بدورها آلاف المليارات من الليرات السورية، وكيف تستمر المطالبة بالتوظيف وتمديد خدمة العاملين في الدولة دون إعادة تقييم للجدوى الاقتصادية والاجتماعية من مثل هذه السياسات الحكومية، إذ لا تكفي المطالبة بالعطاء، ما لم تكن في حدود الممكن والمتوفر والمنطقي.
إنَّ ما تقوم به الحكومة من خطط وتوجّهاتٍ لا يقع تحت عنوان الضرورة والحتمية، بقدر ما يقع تحت عنوان القناعة والعقلانية. فالاستمرار بنهج الدعم وإدارة السياستين المالية والنقدية وفق النهج السائد منذ عقودٍ خلت لم يعُد مقبولاً من وجهة نظر المالية العامة للدولة، ومن وجهة نظر العدالة الاجتماعية، ولاعتباراتِ كفاءة الإنفاق العام. فما كان صحيحاً وفاعلاً في السابق، لم يعُد كذلك حالياً ومن غير المنطقي الاستمرار بتبني سياساتٍ لم تعُدْ مجديةً للتعامل مع الواقع المعقد الحالي، ولا بدَّ من اتخاذ قرارات جريئةٍ ومسؤولةٍ وعقلانية تضمن توفير مقومات الحفاظ على القرار الوطني الحر المستقل.
نحتاج اليوم للحوار البنّاء المستند إلى الوقائع وليس للتمنيات، الحوار الذي يأتي في سياقه الطبيعي، وبخصائصه المعروفة، التي تنبع من الحرص على المصلحة الوطنية والتي تترافق بتحديد الإشكاليات، وطرح البدائل المناسبة الفعالة.
إذ أتشرف وزملائي في مجلس الوزراء بأن أضع بين أيديكم واقع إدارة الملف الاقتصادي في هذا الظرف الحساس، فأنني كلّي ثقةٌ بحكمة ورصانة مؤسسة مجلس الشعب العريقة بفكرها وتحمّلها للمسؤولية، لتتكامل الأدوار لما فيه مصلحة الوطن والمواطن. وننتظر مداخلاتكم ومقترحاتكم، بما يمكنني وزملائي في مجلس الوزراء من الاستفادة منها بما يغني توجهاتنا وخططنا، وبما يثري مقارباتنا لإدارة الشأن الاقتصادي لنكون معاً في كل محطات العمل.