وَقفات
عبد الكريم النّاعم
يقول الشاعر الإيراني الصوفي سعدي الشيرازي:” إنّ أسوأ رائحة هي رائحة المال”، تساءلتُ هل للمال رائحة؟ وأدركتُ بسرعة أنّ المقصود ليس المال بل هي رائحة كيف يُصرَف ذلك المال، وأنّ صرفاً استغلاليّاً لجهود الآخرين، وتثمير المال بما ليس فيه إلاّ فائدة لمشغلّه هو الذي ألحق به تلك الرائحة السيّئة، وقفزت إلى ذاكرتي الآية القرآنيّة الكريمة:” والذّين يكنزون الذهبّ والفضّةَ ولا يُنفقونَها في سبيل اللهِ فَبَشّرهمْ بِعذابٍ أليم* يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنّمَ فتُكوى بها جِباهُهمْ وَجُنوبُهم وظُهورُهمْ هذا ما كَنَزتُمْ لِأَنْفُسكمْ فذوقوا بما كنتُم تَكنِزونْ*.
في الآية الكريمة السابقة أكثر من فضاء لافت، فيها “سبيل الله”، والذين يظنّون أنّ سبيل الله هو الجهاد لا غير مثلاً، يشكو فهمهم من نقص، فالجهاد ليس دائماً، وأعني الجهاد الأصغر، وهو التصدّي لردّ العدوان، فالجهاد الأكبر كما قال الرسول الأعظم (ص) هو جهاد النّفس لإيصالها إلى أعلى مراقي الكمال؛ وسبيل الله ليس واحداً، بل هو متشعّب، وقد تتغيّر سبُله بحسب الأزمنة وتحوّلاتها، والدّائم المؤكَّد الذي يُرضي الله هو ما ينفع النّاس، جميع النّاس، لا ما ينفع إلاّ صاحبه، أو أصحابه،
وفيها ذكر الذّهب والفضّة، وهما من أشهر المعادن الغالية الثمن عبر الأزمنة، ولقد ظلّ الذّهب تحديداً لأزمنة طويل به يُقاس غنى الأمم، فهو الصّنم/ العجلُ الذّهبيّ الذي عبده بنو إسرائيل فترة غياب موسى في جبل “الطّور”، وحين عاد اشتدّ به الغضب فأحرق ذلك العِجل، وفي العبادة المشار إليها قول مأثور : “مَن أحبّ شيئاً عَبَده”،
وفي الآية الكريمة ليس الكنزُ منفرِداً هو العلّة، بل في” هذا ما كنزتُم لِأَنْفُسِكم”، أي كان كنزاً، شخصيّاً، أو لمجموعة مُمَثَّلة في شركة أو أكثر، وخلا من النّفع العام، يتذكّر المتذكّر في هذا السياق أنْ ليس بين أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم غنيّاً، يمكن أن يُستثنى نبيّا الله داود وسليمان الذي كان انتفاء فقرهما ناجماً عن كونهما ملكيْن إضافة إلى النبوّة، كما يتذكّر قارون، الذي كان من قوم موسى، بحسب ما جاء في القرآن الكريم، وكان عنده من الكنوز “ما أنّ مفاتحَه لَتنوءُ بالعُصْبة أولي القوّة”، أي يعجز عن حمْل المفاتيح العصبة القويّة، فطغى بإحساسه بالمال، فخسف الله به وبداره الأرض، كما يتفطّن إلى أنّ أشنع الثراء هو ما حصل عليه بعض رجال الدين نتيجة تأديتهم طقوسا معيّنة لهذه الطائفة أو تلك، ويتقاضون أجر قيامهم بذلك، فكنزوا من المال ما كنزوا، وشادوا البيوت المُبهرَجة، ونسوا أنّ ما هم فيه هو من عطايا مَن حولَهم، فلم يساعدوا جائعاً، ولم يكسو عارياًّ، ولا مدّوا يد المساعدة لعائلة فقدت مُعيلها، ولا إلى مَن لا يجد ما يأكل.
***
في كلّ الأزمنة، لا بدّ من حدوث أسى، لسبب أو آخر، بيد أنّ الأسى يزداد في الأزمنة الضاغطة، والتي تُداهِم المجتمعات بأحداث جسام ترجّ المجتمع رجّاً مخيفا، ففي مثل هذه الأزمنة يزداد الأسى، ويتعمّق، وقد ينمو ويفرّخ، والمدارس النفسيّة الحديثة، وتلك التي تنطلق في علم النفس من مواقع روحانيّة.. كلّها تُجمع على أنّ المرض، أيّ مرض، يبدأ في النّفس، فإن انتصرتْ عليه اختفى، وإنْ عجزت عن ذلك أخذ مظهره في الجسد، بما فيه من أسى، في هذا السياق يقول الفيلسوف الصيني الشهير كنفوشيوس:” إنّك لا تستطيع أن تمنع طيور الأسى من أنّ تحلّق في رأسك، بيد أنّك تستطيع أن تمنعها من ان تعشّش فيه، وأقول: اطردها إن استطعت…
aaalnaem@gmail.com