الهجرة إلى الوطن
غالية خوجة
أرض الله واسعة بلا شك، والسفر والترحال يطلعنا على ثقافات الشعوب، لكنّ الهجرة أمر مختلف، فهناك من هو مقتنع بأن الهجرة من الوطن تجلب الرزق والسلام، وهناك من هو مقتنع بأن الهجرة إلى الوطن حالة ولدت معه من المهد إلى اللحد، حتى لو كان خارج حدود الوطن، لأنه يشعر بأنه لم يغادر وطنه الذي لم يغادره لأنه موقن بأن الوطن “ألجينة ـ صبغية” موروثة تجري مجرى الدم، وحكمة من الله أن يخلق الإنسان دون أن يختار هذا الإنسان أمه وأباه ووطنه أيضاً، لأن لكل إنسان رسالة في هذه الحياة وهي حكمة باطنة.
والحياة، وعبْر الأزمنة والعصور، أثبتت أن الكثير من الناس حملوا مسؤولية وطنهم وهم خارجه، وتشبثوا بقيمه وهويته وجذوره ودافعوا عنه ورفعوا راياته بالأعالي، وعادوا ليموتوا فيه، لأن ترابه الرحم الثاني البرزخي الأبدي.
الهجرة إلى الوطن هجرة متشعبة لأنك حتى لو كنت فيه، أو بعيداً عنه، عليك أن تهاجر إليه، وتذود عنه بالروح والنفس والمال وهي شريعة إلهية وإنسانية، وهذا أقل واجب نقدمه لوطننا سواء بأرواحنا كما يفعل الشهداء “أنبل بني البشر” كما قال عنهم القائد حافظ الأسد، أو بأموالنا أو أنفسنا وأعمارنا، وأن نتشبث بحضارة أجدادنا وحاضرنا ومستقبلنا، وأن نقدم ما نستطيع ولو بكلمة طيبة متفائلة، أو ابتسامة، أو بثّ الشجاعة المعنوية، وأن نعطي كل ذي حق حقه، وأن يقوم كل منا بواجبه على أكمل وجه لأنه لا ينتظر جزاء ولا شكوراً إلاّ من الله تعالى الذي، بكل يقين، سيحاسب المخربين المفسدين والذين استرخصوا وطنهم وإنسانه المواطن.
وهذا يعني أن الهجرة إلى الوطن هي المحافظة على جذوره وقيمه الأخلاقية وهويته العربية الإنسانية الحضارية من كرامة وعزة وفخار ومحبة وسلام وأمان وانتماء وتعاضد عائلي واجتماعي، وتربية الأطفال والناشئة على المحبة الخالصة للأهل والوطن والناس، التربية على القيم التي تعطف على الصغير كما توقر الكبير، وتحترم الصدق والأمانة والواجبات والحقوق وأولها البر بالوالدين لأن من كان باراً بوالديه لن يعقّ وطنه ومجتمعه أينما كان مكان إقامته، فلا يكون تدميرياً ولا انتهازياً ولا استغلالياً، لأنه سيكون مدمراً لذاته قبل كل شيء عاجلاً أو آجلاً، وهذا ما سيحصده خلال حياته أولاً، ومنعكساتها على عائلته ومحيطه وبيئته، وبالتالي، على العالم أجمع.
الهجرة إلى الوطن، بلا شك، تتضمن الهجرة إلى الأخلاق والقيم الثابتة المضيئة عبْر الأزمنة والأمكنة، وهذا ما تعلّمناهُ من الأنبياء عليهم السلام الذين هاجروا إلى الإيمان الجواني والضمير من أجل إحياء الأخلاق الإنسانية التي بوصلتها إعمار الأرض والأوطان بالجماليات المتناغمة مع الذات والمجتمع والبشرية والناس كافة.
ومن الجماليات ألاّ تصاب النفوس بالتلوثات الماضية والمعاصرة والقادمة، خصوصاً، في زمن يمتهن فيه الغالبية التخريب والتدمير للأرض والإنسان والمكان، وهم يفعلون ذلك ضمن خطة ممنهجة ثأريّة حاقدة لتصدير التلوث من أجل القضاء على الحضارة الإنسانية لأنهم أعداؤها، لا سيما العربية منها، ويجربون صياغة عولمتهم السلبية على جثث القيم والأوطان، وللأسف، يساهم معهم الكثير من المفتقدين لمفهوم الهجرة إلى أنفسهم وقيمهم ومجتمعهم وأوطانهم، أولئك الذين افتقدوا بوصلة الوعي المضيء الرائي لما يراد لهم ولجذورهم ونسلهم، لأنهم لهثوا وراء المنافع المادية الآنيّة الزائلة، متناسين أن إنساناً صابراً على الهجرة العكسية إلى ذاته وانتمائه وأجداده ومجتمعه وهويته ووطنه الذي لن يزول ومستقبله يستطيع أن يبني ما هدموه جميعاً ولو ببطء زمني، وهذا حال المواطنين السوريين المهاجرين دائماً وإلى الأبد إلى الله والوطن.