ثقافةصحيفة البعث

نسيبة المطلق في مجموعتها الثانية: أكثر من حكايات.. بالمتعة نفسها

عن دار “هدوء” للنشر أصدرت الكاتبة والقاصة السورية نسيبة المطلق مجموعتها القصصية الثانية، والتي حملت عنوان “حكايات”

المجموعة التي بدأتها نسيبة بحكاية من العيار القصصي الرفيع، على المستوى الفني والتقني، وتحكي قصة جندي يحيا مع إصابة شوهت وجهه، ونوازع إنسانية تتناهبه، منها ما هو متعلق بذاكرته عن الحرب، ومنها العاطفي الذي يجمعه بزوجته، وفي هذا الشق، تقدم نسيبة مثالاً ناصعاً عن الحب، الذي يجمع بين الزوج الأعمى الخائف من أثر إصابته على زوجته، والمشتاق لوجه حبيبته، والزوجة التي اشتاقت أن ترى كم هي جميلة في عيونه وفي قصائده أيضاً، وهكذا ينتصر الحب على التشوه والتزلف والخوف، وعلى العزلة أيضاً، يرى حبها ناصعاً في قولها “الله” على قصيدة ارتجلها، وترى جمالها ناصعاً في مرآة صوره الشعرية العذبة.

في قصة “الدودة” تمزج الكاتبة الرمزية بالواقعية، جاعلةً من شخصياتها ساحة لحرب نفسية قاسية، تدور في دواخلهم، المرأة المشوهة إثر شظية أصابت وجهها، والرجل الذي فقد السكينة بوفاة أمه طفلاً، فصار القلق دودة تلتهمه حرفياً، وعندما يلتقيان على موقف للباص، تحاول منحه السكينة والطمأنينة، لكنه لم يقبض على الفرصة لتردده بسبب “الدودة” ففقد من بيدها فعلاً علاجه، فقد الحب.

تشتغل نسيبة على الأسلوب كما لو أنها ترسم “ميزانسيه” الحكاية، أو الحركة داخلها، فتبنيها من الداخل للخارج، كاشفة بتشويق لغوي ونفسي، عن انفراط الحدث، وتتالي زمنه وأثره، مختارة نهايات رمزية في طابعها العام، لكنها لا تعتمد مباشرة على الرمزية في التقنية المعبرة إليها، وهي بذلك تقدم عدة مستويات فنية للقارئ، الذي سيجد متعة في قراءة حكاياتها، حتى لو لم تلفته أي إشارة فيها، وهذا عائد أيضاً لفهم الكاتبة العميق لشخصياتها بتحولاتها النفسية والشكلية أيضاً.

تبرع نسيبة في الوصف السلوكي لشخصياتها، ما يظهرها ثلاثية الأبعاد على الورق، بحيث تترك صوراً متحركة، أو ربما مشهداً صامتاً، تنفذه تلك الشخصيات، المرسومة بمهارة، وفقاً لأدوار وأنواع الشخصية التي تفضلها القصة. من قصة “ألين” نستورد هذا الوصف: “تقدمت بجسدها الضئيل نحونا تبتسم بفمها المائل ورعشتها الخفيفة، اتسعت ابتسامتها، فصغرت عيناها أكثر واهتز ذقنها الرفيع” وايلين ليست إلا ضحية من ضحايا الهجر والإهمال الذي تسببت به الحرب، تركها أخوتها وهي في ريعان أنوثتها، في دار للرعاية، وفيه صارت عجوزاً بلهاء، محطمة من الإهمال وقسوة الهجر، كما أنها “رمز” أو “مثال” لكثيرات مثلها، لقين مصيراً مشابهاً، وربما أكثر قسوة.

لغة نسيبة الأدبية، بسيطة في ظاهرها، لكنها مشغولة بحرفة بارعة، ما من استطرادات تشتت الانتباه، ولا إيحاءات مربكة، لغة رشيقة، بليغة، مقتصدة على ما هو ضروري لنحت الفكرة، لا لنقلها فقط، وهي بارعة في رسم المشهد لغوياً، حتى يكاد من يقرأ يرى الشخصيات وينظر إلى الحدث، وهذه البراعة اللغوية في فن القصة القصيرة، أحد أهم ركائزه التقنية والأدبية أيضاً، وهي تقنية لا تحتمل العموم، ولا المبالغة، وفيها إرساء عميق لمفهوم أو طبيعة “البناء اللغوي القصصي” ولا نبالغ بالقول أن واحدة من أكثر المشاكل التي تعاني منها القصة القصيرة اليوم، هي “الحذلقة اللغوية” التي لا تناسب جوهر هذا الفن، ولا تناسب شكله أيضاً.

تقدم الكاتبة طرحاً متوازناً للعلاقات الإنسانية التي تعرضها، فلا تشغل بالها “النسوية” التي باتت هدفاً أكثر مما هي نهج، وهي لا تنحاز لشخصياتها النسائية على حساب الشخصيات الأخرى، كما أن منطق أو سياق الحكاية، هو من يتحكم أيضاً بطبيعة الشخصية وسلوكها، امرأة كانت أو رجل.

تنوع الكاتبة في تقنية الدخول لعوالم قصصها، فتارة يجد القارئ نفسه متورطاً سريعاً بتتالي انكشاف الأحداث، إن كان في الحالة الكلاسيكية لهذا الانكشاف، بداية، ذروة، نهاية، أو بالخطف خلفاً، وتارة يجد نفسه أمام ما يمكن وصفه بـ: “كسر الإيهام، فالقارئ يلج إلى الحكاية من خلال مدخل يستمهله ليخبره أنه أمام حكاية، إنه لن يقرأ “كان يا ماكان” بالضبط، ولكن ما يؤدي فعلها، كما في قصة “دعسة واحدة عبر الحدود” ونوع التقنية هنا متعلق بطبيعة القصة ومقولتها.

نسيبة مطلق إن كان في مجموعتها الأولى “حروب صغيرة” دار هدوء-2021-وفي المجموعة الثانية “حكايات” تقدم فن القصة القصيرة ببراعة مدهشة، وثقة متزنة، ما يجعلها من القلة الأدبية القليلة، التي لا زالت تحترم خصائص هذا الفن، وطباعه.

تمّام بركات