البصيرة الإبداعية بين المفهوم والمصطلح وظيفية أم معرفية؟
حلب-غالية خوجة
تختلف تصوراتنا عن الأشياء والألوان والعلامات والأفكار والكلمات تبعاً لتصوراتنا وحواسنا وذهنيتنا ومخيلتنا، ويصبح المفهوم معان ودلالات وتجريدات مختلفة بعدد الأشخاص، لكن الجميع لن يختلف على تصور الشجرة مثلاً، وهذا التصور العام لدلالة الشجرة كمحسوس هو ذاكرة المفهوم، وكذلك القيم النبيلة المجردة مثل العدل، وأيضاً..، المفهوم الواقعي المكاني مثل البيت، المدرسة، الوطن، وكذا..، المفهوم الزماني الذي يختلف كوحدة قياس لليل والنهار والفصول والسنوات عن حضوره في الأزمنة العلمية الكونية لا سيما ما نعلمه عن اختلاف الزمان بين الأرض والشمس والسنوات الضوئية، واختلاف الأزمنة الإبداعية من أفقية وعمودية ومتقاطعة ولولبية وحلزونية.
دلالات إشارية حيوية
بهذا المفهوم يختلف المفهوم عن المصطلح لأن المصطلح أكثر تحديدية وتخصيصية لكنه قابل للتجديد بكل تأكيد، فعندما يتمّ الاتفاق على اللفظ اللغوي ودلالاته نكون أمام المصطلح وبعد المفهوم، أمّا ما قبل الاتفاق فنحن أمام المفهوم وجوهاً لوجوه دلالية متنوعة لكننا ما قبل المصطلح، مع ملاحظة أن المفهوم يستغرق المصطلح الذي هو شعبة من شعبه تتفرع منه بعد الدبلجة النفسية للدالّة والدلالة والترجمة الرؤيوية للمعنى ليصبح أو يصير أحد تفرعات المفهوم الأقرب إلى التخصصية، ومن الممكن الاستدلال بالمفهوم على المصطلح من أجل التطوير، كون المفهوم صار مصطلحاً والمصطلح صار مفهوماً وظيفياً معرفياً بمفهوم ما، لذلك..، لا بد من مقاربة للمفاهيم لفهم المصطلحات بدقة أكبر، وهذا ما تحاول الدراسات الحديثة الوصول إليه بشكل مستمر كي لا تتجمّد معانيها وتستحاثّ دلالاتها وتغرق مفاهيمها وتُحتضر مصطلحاتها، وهذا ما عملت عليه التخصصات المختلفة مثل الطب والسياسة والفلسفة والفكر والعلوم الطبيعية والإنسانية، ومنها النقد الأدبي، فمثلاً كلمة “الشكل” كمفهوم كانت سابقاً تعني كمصطلح نقدي أدبي الصياغة الخارجية للنص (المبنى)، بينما في النقد الحديث فإن الشكل يعني المبنى والمعنى معاً ضمن ثيمات موضوعية وفنية وجمالية.
وأصبح مفهوم مصطلح “النص” يتضمن كل عمل إنساني فني وعلمي وإعلامي ومعرفي وتأريخي وأدبي سواء كان أحد الأجناس الأدبية أو كان لوحة تشكيلية أو مقطوعة موسيقية أو صورة أو مشهداً مسرحياً وسينمائياً وتلفازياً والكترونياً أو مادة صحافية أو دراسة نقدية وعلمية وبحثية أو بناء عمرانياً أو معلماً من المعالم أو أثراً ما، سواء كان واقعياً أو افتراضياً.
البنية الباطنة العارفة
ويختلف النص المثقف الإبداعي عن النص العادي المألوف، لأن الأول يجعل بنيته الباطنة العميقة اللا مقروءة واللا مكتوبة قابلة لقراءات وكتابات متعددة تختلف من متلقّ لآخر، لأن مصطلح “المتلقي” يتضمن التشاركية التفاعلية مع مؤلف النص كمنتوج إبداعي، ولم يعد المتلقي ذاك الإنسان الذي كان يطلق عليه أحد أفراد الجمهور كمشاهد أو مستمع أو قارئ سلبي يستقبل فقط، بل أصبح مناقشاً ومحاوراً ومؤلفاً أيضاً مع مؤلف لا يموت على عكس ما رأى رولان بارت مثلاً، لأن الرسالة الإبداعية كنص، والمرسِل كمؤلف، والمرسَل إليه كمتلق، هي مجموعة محاور أساسية لأي نص حاضرة في الحياة الواقعية وما وراءها، ولا تموت تبعاً للدلالة الأولى من مفهوم “الموت” مثلاً.
كما أن مفهوم “النص” يختلف عن “الخطاب “، عن “الرسالة “، وتتنوع التعاريف المفاهيمية تبعاً للمذاهب والمدارس المتعلقة بهذه المفاهيم كوسائل إيصال مختلفة لها وظائفها وأهدافها القريبة والبعيدة، ورغم ذلك، هناك نقاط التقاء نلمسها تمثيلاً مع جوليا كريستيفا التي تعتبر النص جهازاً غير لساني يعيد توزيع نظام اللسان “Language” عن طريق ربطه بالكلام “Parole” أو “Speech”، بينما يراه بول ريكور خطاباً تمّ تثبيته بالكتابة، وبدوره، يراه رولان بارت نسيجاً منتجاً لمعان متخفية، ولشديد الانتباه أن يلاحظ الفرق بين اللغة كحالة عامة للجميع، وبين الكلام كحالة خاصة إبداعية ومنها النص الشعري مثلاً، بينما تظهر الرسالة كمفهوم وسيلة تواصلية تعبيرية إبداعية تبعاً لثيمتها الموضوعية وأهدافها في السياق ومنه، ووظائفها النسقية المتعددة، وهذا ما تحدث عنه الكثيرون ومنهم دوسوسير وجاكبسون، وتبعاً للمرسل إليه كمتلقّ حاضر في حالة الخطاب، وكمتلق غائب لكنه موجود في أي زمان ومكان تبعاً للنص.
المعادلة التشاكلية المتناغمة
وترتبط بصيرة المفهوم بالحواس والحدوس، ولذلك قال الفيلسوف كانط: “الحدوس دون مفاهيم عمياء، والمفاهيم دون حواس جوفاء”، وتبدو في ذلك حكمة تنطلق من الحواس لتصل إلى الأعماق الإنسانية وتتعتّق في اللاوعي لتتحول مع التصورات إلى مفاهيم، وحالما تتكوّن المفاهيم فإنها لا تتخلى عن تصورات الحواس لأنها تجدلها مع الحدوس لتتهيّأ إلى مرحلة جديدة في الوعي المعرفي، وهنا تكمن بذرة الضوء الإبداعي الذي يضيف للمفاهيم أبعاداً أخرى، وفضاءات احتمالية جديدة تتفاعل مع المعلوم واللا معلوم لتبدع المفاهيم والمصطلحات معاً، وهذا ما أضافته المدارس والمذاهب الفنية والأدبية والنقدية، وما حاورته العديد من الأسماء العالمية مثل تفكيكية جاك دريدا، وفلسفة ميشيل فوكو نقداً وسرداً، وشعرية المتنبي الحكيمة، وصوفية المعرفة وفلسفة العرفان لدى ابن عربي وأمثاله ومنهم الشيرازي والرومي والسهروردي والحلاج ورابعة العدوية.
تساؤلات خارج أفق التوقعات
وكلما استطاع الإنسان تفعيل بصيرة المفهوم تمكّن من إيجاد التناغم الهارموني بين الوجود واللاوجود، وبين الفيزيقي والميتافيزيقي، بين المرئي واللا مرئي، بين المكتوب واللا مكتوب، بين الدلالي والإشاري، بين الواقعي والمتخيّل، وآلف المجال الكهرومغناطيسي المحيط به النابع من دواخله، مع المجال الكهرومغناطيسي الخارجي من أرض وبيئة وفضاء ومجتمع وكلمة وسماء وكون وما فيها من مكونات وعوامل ونصوص معلومة ولا معلومة.
ومن الممكن اختزال بصيرة المفهوم من تراكيب التصورات الثقافية والمعرفية وتصيراتها المستمرة في تطوير جوهرها وإشاراتها واحتمالاتها ودلالاتها المتعددة وصورها المنصهرة في المعنى وهو يغوص بعيداً في طبقات كل روح، وربما من هذه المركزية المحورية للبصيرة قال التلمساني أو ابن عربي: “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”، وربما وضمن هذه البصيرة، كتب الشاعر “إيليتس” الحائز لجائزة نوبل مجموعته الشعرية “له المجد” منطلقاً من مفهومه للإنسان ككون طفيف صغير في كون كثيف كبير.
لكن، كيف تتحرك هذه البصيرة بين المفهوم والمصطلح على الساحة المحلية السورية؟ وهل هي معرفية أم وظيفية؟ كيف؟ ولماذا؟.
المنهج ضرورة
أجابنا الشاعر الإعلامي محمد خالد الخضر: المعرفة تصقل البصيرة، والبصيرة تدفع الموهبة بدورها المعرفي فترى ما لا يراه الآخرون، والمصطلح حالة يستخرجها صاحب المفهوم، والمفهوم مجموعة أشياء وعلائق نستنتجها من خلال النص أو المصطلح، ولا يمكن التطور إلاّ وفق المنهج الذي نقدمه، فلا يمكن لكل من يشبّر بيديه أن يصير شاعراً مثلاً، وليس كل من قرأ على المنبر هو مبدع، لأن الأسس المنهجية أساسية في كافة المجالات، ومنها النقد الأدبي، لذلك، على الناقد أن تكون لديه مفاهيم ومصطلحات مناسبة، وأن يمتلك البصيرة والموهبة والمعرفة، وأمثّل لذلك بما يُناقش حالياً ضمن القصة القصيرة جداً، والقصيدة القصيرة جداً، وجذر هذين المصطلحين مثلاً يعود إلى الأدب الوجيز الذي تطورت مفاهيمه بمصطلحات حديثة.
بينما وفي المجال الإعلامي، ومن خلال تجربته، رأى أن الإعلام الاستقصائي هو أهم ما يقدمه الإعلام للمجتمع بكل فئاته، لأنه يرتكز على الحقيقة وفق المعرفة الثقافية دون اختراع لما لا يحدث، ويكون للبصيرة دورها الاستشرافي الوظيفي الذي يجمع الدور المعرفي أيضاً.
واسترسل: المنهج التطبيقي ضروري في مجال الإبداع، والاختراع ليس للتهشيم والتحطيم، بل لتقديم حالة إبداعية تنهض بالجميل وتزيح القبيح، كما أننا نحتاج إلى التعامل مع الوسائل الالكترونية بشكل جميل ومناسب، وبالتالي، يجب أن ندرك أهمية هذه المواجهات التي تسربت إلى أدبنا ليبقى ثابتاً إلى المستقبل من خلال المفهوم الذي تكونت من خلاله ثقافتنا الحضارية في مختلف مجالاتها الإنسانية ومنها الشعر والإعلام.
مجسدة ومجردة معاً
ورأى التشكيلي إبراهيم داود، أمين سر اتحاد الفنانين التشكيليين بحلب، أن مفهوم البصيرة عند الفنان الإحساس المرهف بالواقع والشعور الذاتي بما يحيط به، وما سيؤول إليه، وتحويل الواقع إلى رؤيا مستقبلية وذلك من خلال عين ثالثة يرى ويبصر بها الفنان ما لا يراه ولا يبصره الإنسان العادي وهو ما يطلق عليه الحاسة السادسة.
وتابع: البصيرة إحساس محوري داخلي يتمتع برؤيا ثاقبة ونافذة تصل إلى بواطن الأشياء والكلمات والألوان والأشكال، ولا تتوقف عند الظواهر، بل تظل تغوص في الأعماق التي يهتدي بسببها الفنان إلى فضاء بين الواقع والحلم، ويمتلك القدرة الروحانية الرائية للمستقبل فيتحول ما يبصره إلى فعل معنوي وفني وإبداعي.
ثم أضاف مستنتجاً: برأيي البصيرة معرفية تتكون وتتشكّل وتتطور من خلال خبرة الفنان التشكيلي ومخزونه الثقافي وتفاعله مع المحيط المعاش وتأثره بالأحداث الإنسانية، وهي وظيفية في الوقت ذاته لأنها تقدم العلائق الناتجة عن العمل في أنساق متنوعة ذات لمسة حسية وطابع جمالي توصل رسالة إنسانية حضارية تريح بشكلها الأنفس، وتفسح المجال للتساؤل والتأمل والتخيل والتفاعل.
استشراف الإدراك غير الحسي
كما أكد الموسيقار عبد الحليم حريري، نقيب الفنانين بحلب، على البصيرة كمصطلح بأنها إدراك نفسي غير حسي لأمر ما، ومفهومها واسع، فهي تشمل وضوح الرؤية والرؤيا وتتوقّع نتائج فعل ما، أو قول ما، أو استشراف مآلاته ونتائجه من خلال التراكم المعرفي والثقافي للشخص، وهذا يظهر في أفعال ونجاح بعض المشاهير ومنهم الفنانين حيث يستطيع الفنان المثقف والمطلع توقع نتائج أعماله من خلال المعطيات التي لديه متفاعلاً مع مفاهيمه العارفة ومصطلحاته الساطعة.