النظام التركي .. سياسات زئبقية تحكمها غايات شريرة توسعية
د. معن منيف سليمان
مع هبوب رياح الاضطراب في المنطقة العربية أواخر العام 2010، بدأت السياسة التركية في التحوّل عن التزام نهج عدم التدخل في الدول، لتتّجه للانحياز نحو دعم أطراف معيّنة في الدول التي تشهد تحوّلات، وكان دعمها موجّهاً تحديداً لجماعات الإحوان المسلمين والعصابات الإرهابية، حيث ساندتهم في مساعي الوصول إلى السلطة، وهو ما تسبّب مضاعفة التوترات في هذه الدول.
وفي سورية، تبنّت الحكومة التركية خيار دعم الإرهابيين، وعزمت على بذل كل ما يدعم خيار دمار الدولة السورية، ومن ذلك ما أقدمت عليه من فتح الحدود أمام المسلحين والإرهابيين، الذين تقاطروا من أنحاء مختلفة عبر المطارات التركية، وتُركوا ليعبروا إلى سورية دون رقيب أو رادع، حتى أضحت الأراضي السورية تجمّعاً لألوف المقاتلين الأجانب.
وفي مصر، إلتزم أردوغان وحكومته بدعم جماعة “الإخوان المسلمين”، وسعى لتعزيز العلاقات مع الجماعة خلال مدّة حكم محمد مرسي. وبعد عزل مرسي، قطع أردوغان علاقات بلاده مع النظام المصري، وهاجم دول الخليج بسبب رفضها دعم الرئيس الإخواني. وهكذا، قوّضت سياسة أردوغان إستراتيجية تصفير المشاكل، من خلال التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وخلال العام 2017، ومع الأزمة الخليجية، اختارت تركيا الانحياز إلى الجانب القطري، وأرسلت قوات عسكرية لتؤسّس فيها قاعدة عسكرية، إضافة إلى ما تلا ذلك من تحرّكات أردوغان على المستوى الأفريقي، والإعلان عن تأسيس قاعدة عسكرية في السودان مع نهاية العام.
كان أردوغان يضمر نشر النفوذ التركي بداية على المنطقة العربية، انطلاقاً من نظرية “صفر مشاكل” نفسها، لكن بطابع التغلغل السلمي، أي إقامة كومنولث عثماني بقيادة تركيا يضم كل المناطق العربية التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، ولكن مع هبوب رياح ما يسمى “الربيع العربي” حاول أردوغان ركوب التيار فعمل بعد العام 2011 على محاولة إسقاط الأنظمة العربية واستبدالها بأنظمة موالية له ركيزتها جماعات “الإخوان المسلمين”، التي نشطت في كل الدول العربية حتى في الدول الخليجية.
وهكذا أصبحت تركيا نموذجاً للدولة التي تمعن في التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها وصولاً إلى تحريك القوات المسلّحة لاحتلال أجزاء من هذه الدول (سورية، والعراق)، أو التغلغل عسكرياً تحت غطاء اتفاقيات ومذكرات تفاهم ملتبسة مثل العلاقة مع ليبيا، أو إقامة قواعد عسكرية في دول أخرى مثل قطر، والصومال، وجيبوتي، ومحاولة ذلك في السودان.
إن الحديث عن الدوافع الحقيقية لاستعادة النظام التركي لسياسية “صفر مشاكل” يطرح علامات استفهام وشبهات حول جديته في التراجع هذه المرّة. فلم يسعَ هذا النظام إلى تصفير جديد للمشاكل بين أعوام 2011 – 2019، لأن المشروع العثماني لأردوغان كان سائراً قدماً على نحو ما يريد.
فقط بعد خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات البلدية في المدن الكبرى الرئيسة في تركيا عام 2019، وبدء تأكيد استطلاعات الرأي إن شعبية أردوغان في تراجع نتيجة الانهيار الاقتصادي وإمكانية أن ينهزم في انتخابات الرئاسة في العام 2023 تحرّك النظام التركي للمصالحة مع بعض الدول مثل السعودية، والإمارات، من أجل المال وتحسين الوضع الاقتصادي.
أما مصر فعلى الرغم من أن أولى محاولات المصالحة التركية بدأت معها، لكن هذه لم تنجح حتى الآن على الرغم من مرور سنتين ونيف، لأن أردوغان كان يريد فقط صورة المصالحة من دون تقديم تنازلات ولأنه ليس في مصر مال تعطيه لتركيا. ولا شك أن التوجهات الأيديولوجية التي حكمت تحديد التوجهات الخارجية لأنقرة في كل الملفات التي يحملها حزب العدالة والتنمية، شغلت دوراً رئيساً في تخريب مسار المصالحة مع مصر.
الأمر نفسه ينطبق على سورية التي رفع أردوغان تجاهها فخّ المصالحة، لكن دمشق أدركت اللعبة التركية والفخّ الذي أرادت أنقرة جرّ دمشق إليه. وساد انطباع قوي بأن رئيس النظام التركي لم يشعر بضرورة المصالحة مع سورية إلا بعدما تبيّن له أن مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا تضغط على الرأي العام وتنعكس سلباً على شعبية أردوغان الذي صار يحتاج إلى مصالحة مع سورية لبدء حلّ مشكلات بدأت تضغط عليه في الداخل التركي وتؤثّر سلباً على شعبيته.
خلاصة القول إن محاولات المصالحة التركية مع بعض الدول العربية وخاصة الخليجية، كانت من أجل غايات مرحلية ولم تكن جدية، ومع مصر في الأساس لم تكن جدية أما مع سورية فكانت ذروة عدم الجدية. وهنا من الطبيعي أن يُعزى التمنع التركي عن التقدّم خطوة إلى أن التوجهات الأيديولوجية التي لا تزال تحاول الاحتفاظ بشمالي سورية سواء مباشرة أو عبر وكلاء محليين، لا تزال تحدّد توجهات السلطة التركية برئاسة أردوغان.