نيران تلتهم الحياة
سلوى عباس
وكأنه لا يكفينا ما يعيشه بلدنا من احتراقات بسبب حرب وحشية عليه وبه امتدت لأكثر من اثني عشر عاماً ولازالت مستمرة احترقت فيها قلوبنا وأرواحنا، واكتوينا بنار جشع تجارها والغلاء والفقر الذي أفقدنا أدنى مقومات الحياة وأصبحنا أسرى لحظة خاطفة نترقب فيها الحصول على الماء والكهرباء وحتى رغيف الخبز، لتأتينا الحرائق وتلتهم ما بقي من قلوبنا النازفة فيتسع الجرح إلى مداه الأكبر، فإلى أي مدى؟ وإلى أي قهر وأسى يودي بنا هذا الاحتراق وإلى أي اتساعات من فراغ ووحشة يرمينا؟ ما الذي تخبئه حروفه التي تشكل جرفاً يطل على هاوية.. التماعة في سماء من سواد تخر على حين لهيب.. كدمعة تقف في محجر العين ثم تذوي لتطفئ الصيف وتغمر الأرض بالرماد.. ثمة في الأفق إنذار يملأ السماء.. ثمة عاصفة قادمة تقتلع الأخضر واليابس، العالم مقبل على فاجعة، لأن الحب اقتلعوا جذوره من باطن الأرض، لأن الجحيم يزحف عيوناً بعد عيون لتملأ ناره ما لا ينفع الناس، فرغم الحرب بأشكالها وألوانها المختلفة، ظل أبناء سورية يرسمون صباحاتهم بدمائهم لملاقاة غدهم المشرق بالحياة، يتأبطون الشمس نبراساً يستمدون منها القوة.. يمسكون قلوبهم يهدئون من اضطرابها قبل أن تذوب في صدورهم، ويبقون عيونهم مفتوحة خوفاً من أن يغافلهم الغدر وهم نائمون، فممالك النوم هجرت عروشها، ورسم ظليل من ألوان الروح يسكب على الأنحاء استطالات السهر.
أرواح توسدت الحلم بأن تكون غلال يوم غد أفضل وأكثر بركة من غلة اليوم الذي قبله، ليس من ذنب لهم ليحصل لهم ما حصل، ذاكرتهم المثقلة بالألم تختزن الكثير من المشاهد المؤلمة التي ستبقى حاضرة في مخيلتهم ما شاءت لهم الحياة، فكيف يمكنهم بعد كل ما عاشوه ويعيشونه أن يستبدلوها بذاكرة جديدة لتاريخهم، ويعيدون تنظيم الزمن على غير ما كانوا يرغبون، وأمام كل هذا العذاب لم يكن أمامهم إلا يغلقوا باب عذاباتهم ويبقوا على رصيف حيرتهم وارتباكهم، متمسكين بأرضهم التي رتبوا بديهياتهم ومسلماتهم على حمايتها والحفاظ عليها.
ما ذنب هؤلاء الناس ليقتحم رواد الظلام نومهم وأحلامهم ويعبثوا بليلهم ويقلبوه قطعة من ظهر النهار، ويشعلوا شمساً في عيونهم توقظ الكون في غير موعده؟ إلى ماذا سيحيلهم هذا الزمان البارد الذي سيأتي، وأي اتقاد سيضطرم في قلوبهم أمام هول المشاهد التي يعيشونها؟!.. هذه المشاهد المؤلمة التي نستعيد عبرها أعواماً من الخيبة والانهزام والعجز أمام أسئلة تطرحها عيونهم دون أن تلقى أجوبة لها؟ ماذا نقول لهؤلاء الأطفال الذين يحلمون كل ليلة بصبح يستنشقون فيه شذى آخر للحياة، لكن حلمهم يتبدد عندما يجدون أنفسهم في هاوية من الخراب والدمار؟!
سنوات عاصفة بالخوف والموت عاشها السوريون ولا زالوا يعيشونها وهم مهددون كل لحظة بتجدد الحروب واغتيال أمانهم، لكن عيونهم معلقة بالسماء ترنو لغيوم الخلاص تمطر سلاماً وأمانا وتغسل آلام أرواحهم وعذاباتها.. غيوم ترسم ليلهم ونهارهم وكل ما تبقى من أحلامهم.
سورية.. منك ومعك يتعلم أبناؤك كيف يصنعون الضماد لجراحهم التي يتجدد نزفها كل لحظة، وفي لحظات وهنهم يرتمون في حضنك تبلسمين آلامهم وتروين ظمأهم إلى حروف اسمك يجمعوها في قارورة حلم يرتشفونه قطرة قطرة حتى يطل الصباح، فأبناؤك رغم العجز والوجع الذي قض أرواحهم تنادوا جميعاً لدفع الضرر وإعانة المتضررين من نيران الحرائق التي أشعلها ظلاميون لا يرون من الحياة إلا سواد قلوبهم.. أبناؤك سورية تكاتفوا جميعاً لاحتضان أخوتهم في المأساة يقدمون لهم العون، يمسكون الشمس عن الاحتراق والهواء عن الذبول، فنحن لن نستطيع حمل حقائب الحياة لوحدنا، نحن دائماً بحاجة من يحمل عنا شيئاً من أيامها، فالروح التي لا تشاركها روح أخرى تمرض.