أوروبا بحاجة تونس أكثر من أي وقت مضى
ريا خوري
تمكّنت الدبلوماسية التونسية من تحقيق إنجازات كبيرة خلال الفترة السابقة، كانت نتائجها لمصلحة تونس وشعبها، وذلك على إثر لقاء في قصر قرطاج جمع الرئيس التونسي قيس سعيد مع أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيسي مجلس الوزراء الهولندي مارك روته، والإيطالية جورجيا ميلوني، تمّ خلالها توقيع مذكرة تفاهم حول “الشراكة الاستراتيجية والشاملة”، والتي تشمل حزمة اتفاقيات في عدّة مجالات بينها التجارة والطاقة النظيفة المتجدّدة، وتدريب الشباب التونسي، ومكافحة الهجرة غير النظامية بما يفوق ما قيمته سبعمائة وخمسين مليون يورو.
لقد أكدت تونس على لسان رئيسها قيس سعيّد في مؤتمر صحفي مشترك عقب توقيع مذكرة التفاهم، أنّ أفضل ما نصّت عليه مذكرة التفاهم هو ضرورة التقارب بين الشعوب، وأنه سيكون هناك مؤتمر على مستوى القمة حول الهجرة غير الشرعية والهجرة النظامية يجمع كلّ الدول المعنية، لأن الحلّ لهذه القضية المهمّة والشائكة، وهذا الوضع غير الإنساني لا يمكن إلا أن يكون جماعياً وبالتعاون بين العديد من الدول والحكومات للقضاء على الأسباب التي تؤدي للهجرة قبل معالجة النتائج.
تقوم حزمة الإجراءات التي سيتمّ تنفيذها على خمسة محاور:
- يتضمن المحور الأول التقارب بين الشعوب، الذي يمكن أن يخلق فرصاً للشباب التونسي ضمن برنامج خاص بالشباب قيمته عشرة ملايين يورو لدفع التبادلات لإعطاء شباب تونس فرصاً جديدة للدراسة أو العمل والتدرّب في معاهد وجامعات دول الاتحاد الأوروبي، وسيتمّ الدعم بنحو ثمانين مدرسة للانتقال الرقمي.
- يتعلّق المحور الثاني بـالتنمية الاقتصادية لبناء اقتصاد تونسي قويّ ومتين يصمد أمام الصدمات، وسيعمل الاتحاد الأوروبي على دعم تونس من خلال تقديم الدعم المالي ودعم للميزانية العامة للدولة.
- المحور الثالث يتعلق بمجال الاستثمار والتجارة، إذ سيعمل الاتحاد الأوروبي على تحسين مناخ الأعمال لجلب الاستثمارات لتونس، ويخطط لتنظيم منتدى للاستثمار في تونس في الخريف القادم لتجميع المستثمرين الأوروبيين والمؤسّسات المالية وتنمية السياحة والقطاع الرقمي، وسيتمّ رصد ما قيمته ثلاثمائة وخمسين مليون يورو.
- يتعلّق المحور الرابع بتطوير قطاع الطاقات المتجدّدة والنظيفة وتزويد تونس بالتكنولوجيا المتطورة الضرورية، وسيتمّ رصد مبلغ ثلاثمائة مليون يورو في هذا المجال.
- أما المحور الخامس فيتعلق بالهجرة، حيث قالت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية نحن بحاجة إلى ضرب الشبكات الإجرامية وشبكات تهريب البشر التي تستغل بؤس الإنسان، وسنعمل على تعميق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس ونزيد تعاوننا في البحث والنجدة وإدارة الحدود ومجابهة تهريب المواطنين، وسنخصّص مبلغ مئة مليون يورو.
الواضح في الأمر أن الأوروبيين سعوا في الفترة الأخيرة وبدافع قويّ من هولندا وإيطاليا إلى عدم إهدار فرصة التعاون المشترك مع تونس، ومساعدتها على تجاوز أزمتها الاقتصادية وهو ما يتسبّب في تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تلحق المزيد من الأضرار بالأوروبيين. والحقيقة أنّ الأوروبيين يدركون أن انهيار تونس هو الكارثة التي تهدّد الأمن الأوروبي لقربها الشديد من الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية العجوز، والأوربيون درسوا بعمق شديد مخلّفات تحطيم الدولة الليبية وتفتتها، وأهمها تفاقم المخاطر الإرهابية، والاتجار بالبشر عبر شبكات دولية عابرة للدول والقارات.
ولكن حاجة الأوروبيين لتونس تتجاوز هذه العوامل إلى عامل آخر أكثر أهمية، وهو ملف الطاقة المتجدّدة، حيث وبحسب جميع الدراسات المتعلقة بالطاقات المتجددة وخاصة الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية، ستكون تونس من الدول التي لها وزن ثقيل، ودور كبير في الأسواق الدولية في المستقبل. وعليه فإنّ الاتحاد الأوروبي يضع قدمه في بلد تنافسي في هذا المجال المهمّ، ويحصل على حصته من سوق دولية تقدّر قيمتها المستقبلية بمئات مليارات الدولارات، ولم ينتظر الأوروبيون طويلاً في هذا المجال، حيث تمّت المصادقة على مشروع الكابل البحري الذي سيكون الشريان الطاقوي المهمّ جداً الذي سيغذي أوروبا انطلاقاً من الصحراء التونسية وعبر إيطاليا.
من هنا ستكون هذه الشراكة وتلك الاتفاقية الاقتصادية مصدر ربح كبير للأوروبيين، بينما ستكون تونس ناهضة، وهذا الأمر مختلف تماماً عما كان سائداً بين الاتحاد الأوروبي ومعظم الدول العربية والإفريقية، ومختلف عما سبقه من اتفاقيات تمّ توقيعها في الماضي مثل اتفاقية الشراكة في العام 1995، واتفاقية الشريك المعمق في 2018، فضلاً عن مشروع اتفاق لم يكتمل ويخصّ رتبة الشريك المميز من خارج دول الاتحاد الأوروبي.
لقد استطاع الفريق الدبلوماسي والاقتصادي المفاوض التونسي أن يقول هذه المرة “لا” لكل المحاولات التي أرادت أن تجعل من تونس مجرّد حرس حدود بحري لجنوب قارة أوروبا العجوز مقابل بعض الفتات المالي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.