فنون لا تموت تطل من البيوت
جلب ــ غالية خوجة
لا تخفي الأمكنة العتيقة فنونها رغم الخرائب الناتجة عن الحرب والزلزال، وهي حال البيوت العريقة في الأزقة القديمة التي تفوح روائحها بأزمنة من ياسمين ونظافة معطرة، كما تفوح بروائح الألوان الفنية المنسوجة بحرفة تراثية يدوية تتقنها أغلب النساء، ولاسيما من تجاوزت منهن نصف قرن من التجديف مع هذه الحياة بحلوها ومرّها، ومنهن العجوز حليمة رحمها الله التي كانت تتقن فن التدبير الاقتصادي والتدوير المنزلي وهي تساعد زوجها الموظف برعاية عائلتهما، ليكون أطفالهما سعداء كبقية الأطفال.
هذه العجوز الطيبة لم تكن تجيد الراحة طوال حياتها، لأنها منشغلة في إعادة صياغة الحياة بأضعف الإمكانات وأقوى موهبة في تطويع الممكنات، فتصمّم الثياب وتخيطها وتعيد تدويرها، وتنسج الأزياء لزوجها وأولادها من خامة الصوف أو القطن، أمّا ما يفيض من تلك الكرات الملونة فتنسجها إمّا بأسياخ الصوف أو المخرز لتتحول بين يديها إلى أغطية تدفئ في الشتاء، وإلى إكسسوارات منزلية تزيينية تضيف للبيت نوعاً من البهجة التي تظهر بوضوح أكبر عندما تزورها الجارات ليشربن القهوة ويتحادثن، ويسألنها عن الطريقة التي تنسج بها ما تصنعه، فتجيبهنّ ضاحكة: سرّ المهنة، فيضحكن، وتستمر حليمة في الحكي عن قصة تعلّمها لهذا الفن اليدوي من جارتها سارة التي كانت تقضي سهرتها اليومية في هذا البيت، وتتابع مشيرةً إلى زاوية في غرفة الجلوس، قائلة: هناك، تجلس سارة وتنسج وهي تتسلّى معنا لأنها مطمئنة في بيتنا، كونها وحيدة بلا أهل ولا أحد، واعتبرتنا عائلتها، وقضينا معها أوقاتاً لطيفة، وكانت تنسج ألبسة جميلة، وعندما طلبت منها أن تعلّمني، فرحتْ كثيراً، وبدأنا، وتعلّمت بسرعة لأني أحببتُ هذه الفنون.
وبينما تسترسل حليمة في الحديث، توشوش جارتها أم محمد جارتها أم جورج وتتفقان على مقاطعتها بصوت واحد: نحن نحب هذه الفنون، نريد أن تعلّمينا سرّ المهنة.
تضحك بقية الجارات اللواتي قلبن فناجينهنّ وهنّ يستمعن لأغنية قارئة الفنجان بصوت عبد الحليم حافظ وكلمات نزار قبّاني، حينها، ما كان من حليمة إلاّ أن تمسك كرات الصوف والمخرز وتجلس وسطهن وتبدأ بالشرح تطبيقياً، فتجرب كل منهن إكمال جزء من النسيج إلى أن تنتهي القطعة بشكلها الفني وسط ضحكاتهن التي ما زالت تحتفظ بها تلك الخيوط بعد موتهنّ.