مجلة البعث الأسبوعية

تقسيم السودان.. غطرسة عسكرية ونرجسية مفرطة مخططات واقتتال بأجندات خارجية هدفها السيطرة على ممرات البحر الأحمر

البعث الأسبوعية- ريا خوري

يعيش العالم اليوم حالة من الغليان في أهم منطقتين من العالم هما بحر الصين الجنوبي، والبحر الأحمر الذي دخل مؤخراً على خط التوتر بفعل محاولات العديد من القوى الإقليمية والدولية مدّ نفوذها في السودان، وتعزيز سيطرتها على المنطقة بشكلٍ مباشر .

ما يحدث في السودان من عنف دموي لا يمكن فصله عن التدخلات الخارجية السافرة، فمنذ الحرب العالمية الأولى مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن مكانة لها لتكون بديلاً عن إرث الدول الاستعمارية السابقة. وفي جلسة سرية في الكونغرس الأمريكي بمجلسية الشيوخ والنواب، تمت الموافقة على مشروع تقدّم به برنارد لويس – مستشرق بريطاني الأصل، أمريكي الجنسية ألّف عدداً  كبيراً من الكتب  عن الشرق الأوسط، وصاغ للمحافظين الجدد إستراتيجية  الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط- والذي يرى فيه أنّ الحل السليم يكمن في التعامل مع الدول العربية بإعادة احتلالهم من جديد، واستعمارهم بطريقة محكمة وقاسية، وتدمير ثقافتهم  وتطبيقاتها الاجتماعية. ويرى أنه في حال قيام الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الدور، فإنّ عليها أن تستفيد من التجربة  الفرنسية والبريطانية في استعمار المنطقة لتجنّب الأخطاء والمخاطر والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان في السابق.

السودان في مخططات التقسيم

وكان للسودان نصيب من مخططات التقسيم التي وضعها، برنارد لويس، ضمن مخطط تقسيم الدول العربية الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها المستقبلية والتي بدأت  في عام 1980 أثناء الحرب العراقية _ الإيرانية. حينها كان مخطط التقسيم يسير في مسارين:

  • الأول قيام مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجينسكي،‏‏ المفكر الاستراتيجي والمستشار للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بين عامي 1977 – 1981، بالتخطيط لحروب الخليج، وحينها صرّح بقوله: “إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية من الآن -1980- هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى التي حدثت بين إيران والعراق، بحيث تستطيع الولايات المتحدة  الأمريكية من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو التي وضعت عام ١٩١٦
  • الثاني هو تكليف وزارة الدفاع الأمريكية للصهيوني برنارد لويس وضع مشروع لتفكيك الوحدة الدستورية والتشريعية لمجموعة الدول العربية جميعاّ كلاً على حدة، ومنها العراق وأفغانستان وسورية ومصر ولبنان والسودان واليمن والسعودية ودول الخليج والدول الأفريقية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية ( الإثنية) والدينية والمذهبية والطائفية. في ذلك الوقت أرفق بمشروعه المفصّل مجموعة من الخرائط المرسومة بعنايةٍ فائقة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية المرشحة للتفتيت والتقسيم بوحي من مضمون تصريح بريجنسكي.

إذن ما يحدث  في السودان يندرج في سياق مخطط  مشروع برنارد لويس، والذي ستنتج عنه أربع دويلات ( النوبة، الجنوب السوداني، الشمال السوداني،  دارفور). الجنوب السوداني كان قد حدث انفصاله عن الشمال، وتبقى الثلاث المناطق بين قوى اقليمية  ودولية هي الآن مناطق ساخنة تتعلق بمخطط النفوذ  الجيوستراتيجي، خاصة في منطقة دار فور الغنية بالنفط ومناجم الذهب والمعادن الثمينة واليورانيوم.

 

روسيا تدخل على الخط

منذ إطلاق ساعة الصفر للخطة التقسيمية عبر الاقتتال الساخن، وتمنع مجلس الأمن والأمم المتحدة التدخل لحل الأزمة، أدلت روسيا بدلوها أنه على طرفي النزاع في السودان التفاوض فيما بينهما دون تدخّل خارجي، حيث لا خير في الهندسة الجيوسياسية، مذكّرةً الولايات المتحدة الأمريكية بأنها هي من قسّمت السودان بتدخلاتها السافرة في السنوات الماضية. وهنا قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: “هل تذكرون جيداً  كيف تطوّرت الدولة السودانية ؟ أولاً كانت دولة موحّدة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ، ثم ظهر السودان، وجنوب السودان.. كل هذا حدث أمام أعيننا عندما أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية  تقسيم السودان بين أولوياتها.. الأمريكان المبادرون لهذا الطلاق بين الولايات السودانية، كان عليهم أن يساعدوا الدولتين الجديدتين على التعايش السلمي، وتطوير الاقتصاد والنمو، وضمان رفاهية مواطنيهما وتحقيق السلم والأمن والأمان، لكن شيئاً ما لم يعجب الأمريكان، الذين أعلنوا فرض عقوبات على قيادتي السودان وجنوب السودان”.

لذلك كانت جمهورية روسيا الاتحادية توصي دائماً باستخلاص الاستنتاج الأهم من الأزمة السودانية الراهنة، وتدعوا لعدم التدخل بين الأفارقة، وتركهم للتفاوض في ما بينهم، كما دعت روسيا لعدم إضافة أي شيء لمعاناتهم القاسية وإيجاد الحلول الدولية خارج ساحة السودان، وعدم فرض مطالب معينة عليهم من الخارج لا تلبي مصالح بلدانهم وشعبهم، فالاشتباكات المسلحة العنيفة لا تخدم السودان ولا الشعب السوداني ومستقبله، وإنما تلبي مصالح القوى الدولية لاستخدام مقاربات واستراتيجيات مختلفة ومتنوعة تجاه المناطق، وكذلك على صعيد الأساليب وطرق التنفيذ، خاصةً أنه يلاحظ منذ فترة تباين تعامل القوى الدولية الكبرى والإقليمية مع  دول القارة الأفريقية لتأتي أخيراً أحداث السودان التي تسارعت بشكل دراماتيكي، ووصلت لحد الانفجار غير المعقول  بعد عدّة  محاولات لإيجاد صيغة توافقية بين الأطراف المتنازعة عبر إتفاق يزيل الازدواجية العسكرية  غير المنطقية بينهما، وفق منطق الجيوش النظامية التي تخضع لقيادة عسكرية موحدة وقيادة أركان واحدة .

يد الكيان الصهيوني

في هذا السياق نجد أنّ الكيان الصهيوني قد استغل ما يجري من صراع على أرض السودان، وقد لاحظنا أنه بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع القتال المسلح  بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع في السودان، اقتنص الكيان الصهيوني اللحظة وعرض وساطته والتدخل بشكلٍ مباشر لحل الأزمة القائمة بين الطرفين من باب أنه قبل اندلاع الأزمة الساخنة دخل السودان في دائرة تطبيع جديد يسمى بالتطبيع الإبراهيمي، حيث يعمل الكيان الصهيوني على ترسيخ الاتفاق الموقّع مع السودان الذي يطل على البحر الأحمر  وهو بحر استراتيجي. لذلك يدور البحث حول الحسابات الجيوستراتيجية الصهيونية في البحر الأحمر، وعلاقته  بالتطور الحاصل في السودان مؤخراً، إذ لم يعد البحر الأحمر بكونه ممراً ملاحياً تجارياً في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل تعدّاه ليكون ممراً استراتيجياً عالمياً يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي، ومسرحاً مهما جداً لعمليات القيادة المركزية للجيش الأمريكي “سنتكوم”، وهي واحدة من أحد عشر قيادة مُقاتِلة موحَّدة لوزارة الدفاع الأمريكية، وكانت قد تأسَّست القيادة المركزية للولايات المتحدة عام 1983، وتولت المسؤوليات السابقة لما كان يُعرف حينها باسم قوة المهام المشتركة للانتشار السريع. تشمل مسؤولية القيادة المركزية للولايات المتحدة منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك مصر في إفريقيا، وآسيا الوسطى، وأجزاء من جنوب آسيا. تُعتبر هذه القيادة هي الوجود الأمريكي الرئيسي في العديد من مناطق العمليات العسكرية، بما في ذلك حرب الخليج الثانيّة، والحرب في أفغانستان وحرب العراق، ويرغب الكيان الصهيوني في تتبع هذا المسار الجيوسياسي الجديد، أي الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وآسيا الوسطى من خلال عقد علاقات جديدة مع دول تلك المنطقة، وهو ما يفسّر التقارب بين الكيان الصهيوني ودول آسيا الوسطى مع أذربيجان وتركمانستان، كما يفسر مساعي الكيان الصهيوني بعقد إتفاق تطبيع مع الدول الآسيوية في جنوب آسيا. ويتخلّل هذا السياق مشهد صراعي بين جمهورية إيران الإسلامية، و الكيان الصهيوني في إطار من حروب الظل بين الطرفين، جعل البحر الأحمر، كونه يحتل موقع جيو استراتيجي هام، مسرحاً لهذا النوع من الحروب. ويعتزم الكيان الصهيوني إنشاء قيادة عسكرية له في البحر الأحمر لتهديد دول المنطقة بشكل عام، وخطوط الملاحة الدولية، وهو يزعم حماية مصالحه في البحر الأحمر سواء كانت في ممرات الملاحة التجارية، أو البنية التحتية، أو النفاذ إلى أسواق جديدة في المنطقة، أي أنه يسعى لأن يجد لنفسه نقاط تمركز جديدة له، من بين هذه النقاط الجديدة هي شرق السودان بالذات، وهو ما يفسر اهتمام الكيان الصهيوني بالوضع العسكري في منطقة شرق السودان، والموقف الرافض من إقامة قاعدة عسكرية روسية التي لم يوافق عليها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان تحت مبرر موافقة مجلس النواب السوداني.

من ناحية أخرى، يسعى الكيان الصهيوني إلى تأمين خطوط ملاحية له في البحر الأحمر من أجل اختراق أسواق آسيوية وأفريقية جديدة، فالسودان بالنسبة للكيان الصهيوني يمثّل نقطة استراتيجية هامّة في حساباته الجيواستراتيجية في الإقليم، وبالتحديد في البحر الأحمر كونه موقع جيواستراتيجي هام لعدة اعتبارات من أهمها صياغة تحركات عسكرية صهيونية في البحر الأحمر، وإقامة مشاريع اقتصادية ضخمة تُمكن الكيان لأن يتحوّل إلى مركز إقليمي هام.

 

إنّ فكرة تسليم الحكم في السودان إلى المدنيين هي فكرة واقعية، وكلما اقتربت القوى المختلفة على الاعتراف بتلك الحقيقة، كلما اعترضت اللقيادات العسكرية عليها، لأنّ المكون العسكري في السودان كان  باستمرار  نقيضاً للتحول الديمقراطي، فأفشل كل محاولة لهذا الانتقال الذي يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار والأمن والأمان والوحدة الداخلية، وتوج هذا الرفض بالانقلاب على المكون المدني. كانت الخلافات بين المكونين العسكري والمدني في السابق  قد أخذت لها مساحة واسعة من التوترات وصلت إلى طريقٍ مسدود بعد أن تشعّبت الخلافات والتناقضات، في المجلس السيادي، وانعكس ذلك على الشارع السوداني، وأوساط التيارات المدنية ليحدث انقساماً حاداً في صفوفها وتشظي وحدتها، بحيث انقسم عن قوى الحرية والتغيير فريق مدني يؤيد المكون العسكري، ومن هنا وجد قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان حاضنته السياسية، وهي صلب المعضلة السودانية، التي ظهرت بين العسكريين والمدنيين. ويبدو أنّ الوسط الاجتماعي السوداني كان مهيأ كثيراً لاستقبال ذلك النوع من التناقض والانقسام، وسلوك التفكيك والتشرذم الذي لم يترك مكاناً للتنمية والاستقرار والتقدم.

معضلة السودان بدت في تدخل القوى الدولية الكبرى والإقليمية لإفشال عملية الانتقال للحكم المدني لبناء الدولة الحديثة، بالإضافة إلى أسباب داخلية عديدة، مجتمعية وسياسية واقتصادية، على الرغم مما يتوفر للسودان من إمكانات اقتصادية وبشرية هائلة.

بكل ألم نقول أن السودان واقع تحت هيمنة سلطات عسكرية لها ارتباطات داخلية وخارجية سرية وعلنية، وتمثّل امتداداً للدولة العميقة لنظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، في استمرار الفساد، والعبث بمقدرات الشعب السوداني، وما لم تترك السلاح جانباً، وتعود طاولة الحوارات السودانية – السودانية، واستكمال مهام المرحلة الانتقالية بشكلٍ سلمي  بانتقال الحكم لسلطة مدنية، فإنها ستُغرق السودان بمزيد من الدماء، والمآسي والصعوبات، وما نراه من عمليات اقتتال وقتل وتدمير يجري حتى في وسط الأحياء السكنية، يؤكّد بشاعة الحالة وقسوتها وهذا هو المنزلق الكارثي في صنيعة الجهات العسكرية المتصارعة التي تعمل على تفكيك السودان من جديد، كما فعل سابقيهم. ولتفسير ما يحدث اليوم من احتراب واقتتال دامٍ، لا تخرج عن كونها مؤامرة خارجية حقيقية  تريد بالسودان شراً . وللأسف القوات العسكرية بتعدّدها هي من تنفذ  ذلك.. !.

وأمام هذه الغطرسة العسكرية والنرجسية المفرطة، لا تبدو هناك حلول من الخارج، وستمضي السودان على نفس مخطط تدمير الدول العربية، لأن فيها ما يكفي من الأسلحة لحرقها وتخريبها وتدميرها  نهائياً.