مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. سهيلة محمد: مرآتها الأرض، وصديقة عمرها أيضاً

تمّام بركات

يشبه الإنسان طبيعة الأرض التي ينتمي إليها، يصبح بمرور الوقت، صورتها الناطقة، وتصبح هويته الوجدانية أيضاً، وعنوانه الأصيل الذي لا ينوب عنه عنوان، السيدة سهيلة محمد “73 عاماً” وبمجرد النظر إليها خارجة من حقلها الصغير، تحمل بيدها بعض الخضار –فليفلة-بندورة-بامية-ملوخية، وغيرها-وعلى ثغرها ابتسامة تكاد تضيء، تحت وهج شمس الصباح، يرى هذا الشبه الحقيقي، بين السيدتين، بل يشهد على علاقة التحالف القديم، الذي جمعهما، منذ آلاف السنين وما زال، تعتنيان ببعضهما البعض، تفرحان للخير، وتحزنهما آثار الهجر والإهمال، تتبادلان الهموم والمسرات، تارة تحكي أم الأمير ما يشغل بالها لشجرة ليمون، تعتني بها، فتجيبها صديقتها، بحضن من زهر الليمون، ينهمر فوق منديل الحرير، الذي تضعه على رأسها، وتارة تعاتب الأرض صديقتها، التي غابت منذ بضعة أيام، قضتها في زيارة لبيت أحد أولادها، فترد سهيلة، بماء عذب يغسل الأشجار والخضار وعرائش العنب والود، الواصلة بين مخدعي الصديقتين.

في ستينيات القرن الماضي، سيحملها زوجها من بيتها في قرية “البرازين” الواقعة في ريف جبلة، إلى مدينة حمص حيث يعمل، وهناك سيؤسسان حياتهما، وستحمل سهيلة ثقل الحياة مع زوجها، بتربيتها لستة أبناء، وفي مرحلة صعبة كانت تمر بها البلاد، عدا عن كونها جديدة على المكان، وعلى كل شيء فيه، لكن هذا لم يؤثر على عزيمتها التي لا تلين، في المضي قدماً، لتحقيق رسالتها المقدسة كأم، وإيصالها الأبناء إلى برّ الأمان، مع تقديمها عنايتها الخاصة للجميع معاً، ولكل واحد منهم على حدا، بما يجعله يشعر أنه المميز، أو المفضل عندها، وحتى اللحظة لا يزال أبناءها، يتنافسون على نيلهم رضاها، بما ربته في دواخلهم وكبرته في نفوسهم.

مرة أخرى، تضع الحياة كل من سهيلة والأرض، في كفة واحدة، السيدتان هذه المرة، ستعانيان من غياب الرجل، الذي وهبهما عمره، لقد توفي زوج أم الأمير، وهو من كان يعتني بصديقتها، وإن كان من وقت لأخر، بسبب تواجده في محافظة أخرى، وكان لا بد لها من التفكير ملياً بالخطوة القادمة، رغم معرفتها طبيعتها العامة، فليس من السهل، بعد أكثر من 25 عاماً قضتها سهيلة وأسرتها في حمص، أن تعود لتعتني بالأرض، لكنها أدركت بحدثها الأمومي، أن لا خيار آخر، خصوصاً إذا أرادت لم شمل الأبناء، الذين فرقتهم دروب الحياة عنها.

الصبية التي كانتها سهيلة عندما غادرت قريتها، صارت جدة، وتعب الخيار الذي تفكر فيه ليس هيناً وعلى مختلف الصعد، لكنها وفي لحظة صفاء ذهني، قررت أن وقت العودة حان، فثمة أمر لا يحتمل الإهمال ولا التأخير، ثمة صديقة تنتظرها لتتقاسما حزن فقد الحامي، وتقرران إن كانتا ستفترقان أم أن ثمة خيارات أخرى، ستضعانها على الطاولة، سيدة لسيدة.

انتقلت أم الأمير وأسرتها بداية إلى مدينة جبلة، وهي خطوة إستراتيجية ستؤتي ثمارها فيما بعد، وخلال مدة إقامتها في المدينة، كانت تقضي معظم وقتها حرفياً، مع صديقتها، التي لم تكن راضية تماماً بداية الأمر، خصوصاً وأن العشب والصخور قد استوطناها، لكن الصبر والتعب والهدف، الذي قدمته وبذلته السيدة سهيلة، نال استحسان صديقتها، وبدأت ضحكتها الخضراء تشرق رويداً رويداً، كلما اقتربت سهيلة منها، واعتنت فيها.

أتمت أم الأمير بناء البيت، الذي بدأه زوجها قبل وفاته، وعندما صار كل ما في تفكيرها واضحاً ومكتملاً، انتقلت إلى إتمام خطتها الإستراتيجية، بجعله بيت العائلة مرة أخرى، ونجحت في ذلك، كما أنها ورطت أبناءها بمحبة صديقتها الأرض، وهكذا نجت صديقتها بفضلها من البيع، رغم قسوة الظروف، التي كانت ليُحل شيئاً منها في بيع الأرض، وهذا ما رفضته سهيلة بعناد وصبر وأمل لم يكل حتى اللحظة.

صباح كل يوم، وقبل حتى أن تنهض العصافير عن الأغصان، تمضي سهيلة لتشرب قهوتها مع صديقتها، بين “سكوباتها” تجلس، تحكيان لساعات، تضحكان، تبكيان، قبل أن يصل صوت من أحد الأبناء أو الأحفاد، ويقطع حديثهما، لكنهما ومثل جارتان تتبادلان الأحاديث عند الباب، تلتفتان مرات عدة، وتنخرطان في حديث جديد، قد يكون عن تقليم لشجرة، وقد يكون عن طلبات الأبناء التي لا تنتهي، وهكذا، حتى صارت سهيلة أرضها، وأرضها صارتها، صديقتان حتى تقف الأيام.