مجلة البعث الأسبوعية

من المسؤول عن نزيف كوادرنا الطبية إلى الخارج؟ هل لدى وزارة التعليم الخطط للاستفادة من خبراتهم مجدداً؟

البعث الأسبوعية ـ علي عبود

لم تتوقف هجرة الأطباء إلى الخارج على مدى العقود الماضية، لكنها ازدادت في العقد الأخير بنسب مرعبة تهدد القطاع الصحي بشقيه العام والخاص، وباتت بعض الاختصاصات، كالتخدير والأشعة والطب الشرعي، قليلة جدا ولا تفي بحاجة المشافي، وخاصة العمليات الجراحية المعقدة.

والمسألة لا تتعلق بالمال، فدخل الأطباء لم يتأثر بالحرب الإرهابية على سورية، وإنما بهدف تطوير مهاراتهم العلمية واكتساب الجديد في عالم الطب، وربما يسعى البعض إلى حياة أكثر استقراراً، دون أن نتجاهل عامل المنافسة أو الشهرة، وخاصة إن الكثير من الأطباء المهاجرين وصلوا إلى مناصب رفيعة في المراكز والمشافي المشهورة عاميا!

وبما إننا أمام نزيف مستمر لذوي المهن الطبية، وليس الأطباء الاختصاصيين فقط، فإن السؤال بطبيعة الحال: من المسؤول عن نزيف كوادرنا بمختلف اختصاصاتها إلى الخارج؟

والسؤال الأهم: هل لدى وزارة التعليم العالي أي خطط للاستفادة من الأطباء المغتربين؟

مراكز لتخريج الكوادر

لا نبالغ بالقول إن الجامعات السورية تحولت إلى مراكز لتخريج الكوادر والخبرات العالمية لصالح الدول الأخرى مجانا 100 %، دون أن تقوم أي جهة حكومية بدراسة هذه الظاهرة التي تؤثر سلبا على البلاد والعباد لمعالجة أسبابها، وإعادة نسب الهجرة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

وفي حال عجز الحكومة عن تخفيض نسب هجرة الأطباء، فإنها ليست عاجزة أبدا عن الاستفادة من خبراتهم بما يفيد المحتاجين إليها في وطنهم الأم!

لقد آن الأوان لتقوم وزارة التعليم العالي بوضح الخطط السنوية لتنظيم مؤتمرات نوعية لأطبائنا المهاجرين على غرار المؤتمرات السابقة قبل عام 2011 للأطباء المهاجرين إلى ألمانيا والنمسا.. والوزارة مقصرة جدا في هذا الجانب.. فلماذا؟

ويمكن للأطباء المغتربين الحضور مع معداتهم المتطورة إلى هذه المؤتمرات لإجراء عمليات في المشافي الحكومية ضمن أسابيع عمل أو ورشات تدريبية للأطباء السوريين، ويتركون التجهيزات والمعدات بتصرف وزارتي الصحة والتعليم العالي كما كان يفعلها الأطباء من أصول سورية سابقا ما قبل عام 2011.

تسهيلات مغرية

والحقيقة، أن آلاف الشباب يسعى إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل، في ظل واقع لم تعد هذه الفرص متوفرة ولا كافية لتأمين الدخل الذي يغطي احتياجات السوريين، ولكنهم يواجهون صعوبات كبيرة وكثيرة تحول دون حصولهم على تأشيرة سفر إلى الخارج، على عكس الأطباء، فقد حصل عشرات الآلاف منهم خلال سنوات الحرب على التأشيرة بسهولة بل إن بعض الدول كألمانيا تغريهم بالقدوم إليها دون شروط تقريبا أسوة بمن سبقهم من الأطباء السوررين!

وبما أن العائق الوحيد للطبيب الراغب بالهجرة إلى ألمانيا هو “اللغة” فقط، فقد زاد عدد الأطباء المسجلين في المعاهد لاكتساب اللغة الألمانية خلال عدة أشهر، في حين وجد أطباء آخرون أن الطريق الأقصر والأسرع لتعلم اللغة هو عن طريق أساتذة متخصصون، والسؤال: لماذا ألمانيا هي الوجهة المفضلة للأطباء السوريين؟

بالإضافة إلى المغريات المادية، والشروط السهلة للحصول على التأشيرة، فإن معظم الأطباء الذين هاجروا إلى ألمانيا سواء قبل الحرب على سورية أم بعدها، وصلوا إلى مواقع متقدمة، ويترأسون أقسام مهمة في أشهر المشافي الألمانية، بالإضافة إلى الدخل العالي الذي لا يتوفر في أي بلد أوروبي أخر، والأهم أن الألمان يثقون من خلال تجربتهم الماضية بمهارات وكفاءات الأطباء السوريين، وهذا يفسر أسباب فتح أبواب بلادهم للمزيد من الأطباء السوريين.

إقبال كبير على تعلم “الألمانية

وما يؤكد هذا الأمر أن نسبة الأطباء بين المنتسبين إلى مراكز ومعاهد تعليم اللغات وحصرياً الألمانية تتجاوز الـ  65%، ولا يقتصر تعلم اللغة الألمانية على الأطباء المتمرسين، والذين يمكنهم تعلم اللغة لاحقا بعد هجرتهم إلى ألمانيا، وإنما يشمل أيضا طلاب كليات ومعاهد ذوي الاختصاصات الطبية، وهذه ظاهرة خطيرة لم تستأثر باهتمام وزارة التعليم العالي حتى الآن، فطلابنا يخططون للهجرة قبل تخرجهم، ولا يريدون هدر الوقت بعد التخرج، فهم يخططون كي يتقنوا اللغة الألمانية كي يكونوا مستعدين للحصول على تأشيرة السفر بأسرع وقت.

ويسعى طلاب آخرون من خلال تعلم اللغة للحصول على قبول في كليات الطب في إحدى الجامعات الألمانية، أي يريدون حرق المراحل والهجرة باكرا، ومتابعة دراسة الطب في بلد تحول إلى قبلة المهاجرين السوريين من ذوي الاختصاصات الطبية أو غيرها، وطبعا لا يمكن أن نلومهم مادامت الحكومة غير مكترثة بالمحافظة على الآلاف من كوادرها وخبرائها وهم على رأس عملهم، فكيف ستكترث بالمحافظة على عشرات الآلاف من الكوادر والخبراء قيد التأهيل والإعداد؟

وبما إن ممارسة مهنة الطب بحاجة إلى مصطلحات لا يمكن تعلمها في المعاهد السورية، فإن الأطباء ومن خلال تجارب زملائهم الذين سبقوهم بالهجرة، يسجلون فور وصولهم إلى ألمانيا في معاهد متخصصة أو في دورات نوعية كي يجتازوا فحص اللغة الطبية.

ما سبب الرغبة الألمانية ؟

لعل الكثيرون يتساءلون: ما سبب رغبة ألمانيا الشديدة بالأطباء السوريين؟

في الواقع، فإن ألمانيا في مقدمة الدول الأوربية التي تشجع الهجرة إليها، ولكن ليس أيّ مهاجرين، فهي تطلب أيضا أصحاب المهن والحرف المختلفة ومن جميع البلدان، لكنها تفضّل منهم السوريون، تماما مثل الأطباء وذوي المهن الطبية السورية، فلماذا؟

أولا: المجتمع الألماني هرم، نسبة الشباب فيه ضئيلة، وبالتالي يعاني من نقص الكوادر والخبرات الكافية والوافية لمجتمع غالبية سكانه يحتاجون إلى الخدمات، لذا تابعنا استعدادات ألمانية لتقديم التسهيلات لعشرات آلاف السوريين النازحين أبان الحرب على سورية، فاستفادت ممن يتقنون الحرف والمهن والصناعات النوعية، ولمن لا يتقن أي مهنة قامت بتدريبهم وزجهم في مصانعها التي تعاني من نقص العمالة، كما شجعت السوريين على تأسيس مشاريع صغيرة خاصة في مجال المأكولات والمشروبات والحرف اليدوية..الخ.

ثانيا: لدى ألمانيا تجربة ناجحة جدا مع الأطباء السوريين على مدى العقود التي سبقت الحرب الإرهابية على سورية، وهم يعملون في معظم المشافي الألمانية، واكتسب بعضهم شهرة تفوق نظرائهم الألمان بدليل تسلمهم مواقع متقدمة جدا في القطاع الصحي.

ثالثا: كشفت جائحة كورونا هشاشة القطاع الصحي في كل أوروبا وعجزه عن التصدي لهذه الجائحة، وكانت ألمانيا السباقة، بل الوحيدة تقريبا بتسهيل منح التأشيرة للمهاجرين من ذوي الاختصاصات الطبية، وخاصة القادمة من سورية.

الخلاصة:

نستنتج من كل ذلك، إن الجهات الحكومية السورية التي استهانت بكوادرها وخبراتها التي أنفقت عليهم المليارات قدمتهم هدية مجانية لدول لا تزال تجاهر بالعداء لسورية وبدعم الإرهابيين، وقد استقبلت ألمانيا الأطباء السوريين وغيرهم من أصحاب الخبرة في الصناعات والحرف المختلفة وفتحت لهم مشافيها ومصانعها مقابل أجور عالية، ولماذا لا تفعل ما فعلته وستستمر بفعله لكوادر وخبراء وخبرات أتت إليها دون أن تنفق على إعدادها “ماركاً” واحدا من خزينتها؟.