دراساتصحيفة البعث

الجيل الجديد” للأيادي الصينية”

عناية ناصر

وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، فإن أعداد العلماء الصينيين الذين يغادرون الولايات المتحدة قد ازداد بشكل مطرد خلال العقد الماضي. ونقلت المجلة عن دانييل مورفي، المدير السابق لمركز فيربانك للدراسات الصينية بجامعة هارفارد: “إننا نخسر جيلاً من الأشخاص الذين هم على دراية ومعرفة وخبرة بالصين”. وحذر من أن هذا قد يعيق بشدة فهم واشنطن وتصورها للصين في المستقبل.

الأسباب الرئيسية لاستنزاف الخبيرين بالصين ” والمعروفين باسم “أيادي الصين” في الولايات المتحدة – في إشارة إلى الأجنبي الذي يُظهر إلماماً باللغة والثقافة الصينية أو تقاربهما – ثلاثية:

  • أولاً وقبل كل شيء، تشهد الولايات المتحدة موجة من المكارثية الجديدة، حيث يتم التعامل مع أي شخص أو أي شيء مرتبط بالصين بموقف عدائي للغاية.
  • ثانياً ينتشر التمييز العنصري المتطرف داخل الولايات المتحدة، وغالباً ما تستهدف العنصرية المتأصلة فيه الأفراد الصينيين.
  • ثالثاً هناك “أمننة” للتبادلات والبحوث الثقافية والأكاديمية بين الصين والولايات المتحدة، حيث تُصور حكومة الولايات المتحدة التبادلات العادية بين الأفراد على أنها مخاطر أمنية محتملة، مما يؤدي إلى انتشار انعدام الأمن بين العلماء الصينيين. تم تنفيذ “مبادرة الصين”، التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب لمقاضاة الجواسيس الصينيين المفترضين في الأبحاث والصناعة الأمريكية، لأكثر من ثلاث سنوات اعتباراً من عام 2018، وكان لها عواقب وخيمة وسلبية بشكل خاص داخل المجتمع الصيني في الولايات المتحدة، حيث تعرض العديد من الصينيين ولأسباب غير مفهومة للشبهات والدعاوى القضائية والاعتقالات. وعلى الرغم من أنه تم إلغاء مبادرة الصين من قبل الرئيس جو بايدن، لكن تبين أن آثار المبادرة مازالت باقية .

لقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى مغادرة العديد من المثقفين من الولايات المتحدة، لا سيما في مجالات العلوم الإنسانية والعلوم، حيث يبحثون عن مناطق يمكنهم فيها متابعة حياتهم المهنية بشكل مريح.

مؤخراً، قام هنري كيسنجر، “الصديق القديم” للصين ووزير الخارجية الأمريكي السابق، بزيارة الصين واستقبل استقبالاً حاراً من قبل الجانب الصيني .غالباً ما تشكل أيدي الجيل القديم في الصين-  إذ تشير عبارة “يد الصين القديمة” إلى الشخص الذي عاش في الصين أو لديه فهم عميق للثقافة والتاريخ الصيني، وعادة من خلال الخبرة في الأعمال أو السياسة أو المجالات الأخرى- أحكاماً شاملة حول الصين من خلال دراسة تاريخها ولغتها وثقافتها ودبلوماسيتها وعاداتها. و يسمح لهم نهجهم بالتعاطف مع الصين والمشاركة في تبني منظور، مما يؤدي إلى مستوى معين من الموضوعية والإيجابية عند النظر إلى الصين.

في المقابل، بدلاً من امتلاك فهم أساسي لتاريخ الصين وثقافتها، يعتمد بعض خبراء الصين الحاليين غالباً على افتراضات مجردة ونظرية ومسبقة حول الصين. بالإضافة إلى ذلك، تأثر الجيل الجديد لما يسمى” بالأيدي الصينية” بشكل كبير بجو المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، مما أدى إلى رؤية جامدة ومنحازة للصين تتخللها مفاهيم المنافسة والمواجهة.  علاوة على ذلك، قد لا يمتلك العديد من الخبراء الصينيين المزعومين بالضرورة خبرة في دراسة الصين، نظراً لأن سياسة الولايات المتحدة تركز بوضوح على الصين، فإن العديد من الأفراد الذين يسعون للحصول على مكانة بارزة سياسياً يوجهون انتباههم نحو الصين، مما يؤدي حتماً إلى وجهات نظر متحيزة سياسياً تجاه الصين في دائرة صنع السياسة الأمريكية.

في البيئة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، تختار أيدي الصين الحقيقية إما أن تظل صامتة أو تتكيف مع المشاعر السائدة. على العكس من ذلك، فإن الأفراد الانتهازيين الذين يتعاملون مع الأجواء السائدة المعادية للصين نشيطون للغاية، مما يجعل من الصعب الاستماع إلى مقترحات سياسية صحية وعميقة وعملية ولتحسين السياسات لإيجاد مساحة كافية.

علاوة على ذلك، نظراً للتأثير الكبير للرأي العام على القرارات السياسية الأمريكية، فإن التراجع التدريجي للأصوات العقلانية سيؤدي إلى تحليلات متطرفة ومثيرة في وسائل الإعلام الأمريكية عندما يتعلق الأمر بالتقارير المتعلقة بالصين.

ستزيد هذه الدائرة السامة التي شكلتها المؤسسة السياسية الأمريكية ووسائل الإعلام والرأي العام فيما يتعلق بقضايا الصين من تدهور المناخ السياسي المتعلق بالصين في الولايات المتحدة، وسيؤدي هذا بدوره إلى سياسات أكثر فوضوية، مما يزيد من صعوبة الحفاظ على الاستقرار في العلاقات الصينية الأمريكية.

في ظل هذه الحلقة المفرغة، ليس هناك شك في أن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين سوف تتطور في اتجاه متشدد بشكل متزايد. ومع ذلك، فإن العلاقات الصينية الأمريكية لا تحددها الولايات المتحدة وحدها، فهي ليست مجرد مسألة ثنائية بل عالمية.

تأمل الصين في الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين مع الولايات المتحدة، كما يرغب المجتمع الدولي في تجنب العلاقات الصينية الأمريكية الصراع وتحقيق الاستقرار.

بالنظر إلى هذا الطموح المشترك من الصين والمجتمع الدولي، إلى جانب القوة والنفوذ المتزايدين اللذين يمتلكهما، فإن عملية تقويض الولايات المتحدة للعلاقات الصينية الأمريكية ستواجه بلا شك مقاومة ليس فقط من الصين، ولكن أيضاً من حلفاء الولايات المتحدة ودول أخرى في جميع أنحاء العالم. وبالتالي، فإن تطور العلاقات الصينية الأمريكية ليس بالضرورة أن يسير باتجاه دوامة تدهور لا يمكن السيطرة عليها.

يعتمد مستقبل العلاقات الصينية الأمريكية على عاملين: أولاً، ما إذا كانت ستعزز قدرة الصين وحكمتها في قيادة العلاقة، وثانياً ما إذا كان بإمكان المجتمع الدولي فرض ضوابط وقيود أقوى على سياسات الولايات المتحدة الانفعالية والمحتدمة والمتطرفة وغير العقلانية والمدمرة تجاه الصين. فكلما نمت قوة الصين بشكل أسرع وكلما زادت القيود القوية التي يفرضها المجتمع الدولي على الولايات المتحدة، كلما زادت آمال العلاقات الصينية الأمريكية.