مسار عقلية الصديق والعدو.. خيار خطير
عناية ناصر
عندما أصبح جو بايدن رئيساً في كانون الثاني عام 2021، كان بعض الليبراليين وغيرهم في الولايات المتحدة قلقين بشأن الموقف العدائي الذي انتهجته الولايات المتحدة تجاه الصين، وخاصةً منذ إعلان باراك أوباما “الاستدارة الأمريكية نحو آسيا” في عام 2011، وشنّ دونالد ترامب “حرباً تجارية مع الصين”، في عام 2018. وأعربوا عن أملهم في أن يتحرّك بايدن نحو موقف أكثر إيجابية في السياسة الخارجية، والانخراط مع الصين في جهود مشتركة لإيجاد أرضية مشتركة في التعامل مع القضايا العالمية الرئيسية مثل تغيّر المناخ، والقضاء على الفقر في البلدان النامية. لكن بدلاً من ذلك، عمدت إدارة بايدن فقط على تعميق حملات الشيطنة والاستفزاز الموجّهة ضد الصين.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، جعلت الولايات المتحدة من دوافعها المعادية للسوفييت وللشيوعية المحدّد الأساسي للأفعال الأمريكية في العالم، حيث اعتبر صنّاع السياسة الأمريكيون وسياسيوها العالم بيئة أخلاقية بيضاء وسوداء. وفي هذا الإطار كانت الولايات المتحدة جيدة، بينما السوفييت وحلفاؤهم سيئين. كما كانت السياسة الأمريكية تجاه أي دولة مبنية على ما إذا كانت تلك الدولة منفتحة على واشنطن، أو إذا كانت تسعى إلى تطوير نفسها وفقاً لشروطها الخاصة، ربما بمساعدة من الاتحاد السوفييتي. ففي حال بدا أن دولة ما أصبحت صديقة للسوفييت، فستحاول الولايات المتحدة أولاً إغراءهم بالعودة بمساعدات متزايدة أو حوافز ومكاسب أخرى. وإذا لم يفلح ذلك، فسيتمّ تبني مقاربات أشد قسوة، بما في ذلك الإطاحة بالحكومات التي اعتبرت غير متوافقة مع أو مقبولة بالنسبة “للمصالح” الأمريكية.
لقد أدّت الحملة العدوانية الأمريكية المتواصلة ضد الاتحاد السوفييتي، وضد أي دولة متحالفة معه أو صديقة له في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، ونهاية الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وانتصار عام داخل النخب السياسية الأمريكية، الذين اعتبروا أنفسهم على أنهم القوة العظمى الوحيدة المتبقية المسيطرة على العالم لمصلحة أرباح الشركات الأمريكية. ومع ذلك، تزامنت نهاية الحرب الباردة إلى حدّ ما مع تطورات جديدة في أجزاء أخرى من العالم، والأهم من ذلك، أن الصين قد طوّرت برنامجها للإصلاح والانفتاح على الخارج وانخرطت مع النظام الرأسمالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في جهودها للحصول على رأس المال والتقنيات، وغيرها من المعلومات والمعرفة كجزء من جهودها لتطوير اقتصادها الإنتاجي وتحسين حياة شعبها.
أقنعت النخب الأمريكية نفسها في سياق نهاية الحرب الباردة بأن الصين ستخضع، عاجلاً أم آجلاً لعملية انتقال سياسي، وستصبح مكوناً تابعاً وخاضعاً للرأسمالية العالمية. وخلال التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن، توقعت الولايات المتحدة نوعاً من “الثورة الملونة” أو تغيير آخر في النظام السياسي في الصين، لكن أمنياتها ذهبت أدراج الرياح، إذ ظلّت الصين ملتزمة بمشروعها الاشتراكي، وتحسين الحياة المادية لشعبها، وانتشال مئات الملايين من الفقر، وتوسيع الرعاية الصحية والتعليم، والعمل على معالجة القضايا البيئية مثل تغيّر المناخ والاحتباس الحراري. عندما أصبح من الواضح أن الصين كانت متمسّكة بمسارها الخاص، تحول السياسيون الأمريكيون مثل أوباما وهيلاري كلينتون من موقف المشاركة إلى حالة حرب باردة جديدة في محاولة لإبطاء أو إعاقة تنمية الصين، ومنعها من الظهور مرة أخرى كمشارك مهمّ في الشؤون العالمية.
هذه هي حقيقة السياسة الأمريكية تجاه الصين اليوم، حيث تواصل النخب الأمريكية رؤية العالم باللونين الأبيض والأسود، وهو عالم تكون فيه البلدان إما خاضعة للهيمنة الأمريكية أو يتمّ شيطنة الأعداء وعزلهم واستعداؤهم بطرق مختلفة. كما تسعى شخصيات مثل جو بايدن، ودونالد ترامب، وميتش ماكونيل، وتشاك شومر – محاربي الحرب الباردة القدامى- إلى إدامة قوة وامتيازات النخب الأمريكية في عالم سريع التغيّر، حيث لم تعد الولايات المتحدة مهيمنة، يدفعهم غموضهم الأيديولوجي إلى أعمال استفزازية طائشة وحملات شيطنة تخاطر باندلاع الحرب وتدمير الاقتصاد العالمي.
يواجه العالم اليوم العديد من التحديات الخطيرة، وتتطلّب الأزمات البيئية الوجودية اتخاذ إجراءات فورية ومنسقة من قبل جميع البلدان والشعوب في جميع أنحاء العالم. وهنالك حاجة ماسة للتخلص من التفاوتات العميقة في التوزيع العالمي للثروة وموروثات الاستعمار والإمبريالية الغربية.
كانت فترة الحرب الباردة كارثية لكثير من الناس في العديد من البلدان، ولذلك فإن العودة إلى مسار عقلية الصديق والعدو هو خيار خطير من قبل الولايات المتحدة وإدارة بايدن والسياسيين عبر الطيف السائد من الديمقراطيين والجمهوريين، كما أنه سيئ بالنسبة للولايات المتحدة وللصين وللعالم.