الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

زمن المَرار

  عبد الكريم النّاعم

قُرِع الباب ففتحتُه، لم أُنكر منه شيئاً، رغم مرور قرابة خمسة وثلاثين عاماً على آخر لقاء بيننا، أدخلَ شيئاً من البهجة الطّارئة على نفسي، استقرّ بنا المجلس بعد الترحيب، ودخلْنا في حوار استدعتْه ظروف ما مضى، وما نحن فيه، سألتُه عن ابنيه فقال: “واحد مقيم في النّمسا، والآخر في كندا، وهما لا يقصّران فيما يُرسلانه”. قلت: “ألم تتزوّج بعد وفاة أمّهما”، قال: “لا، فقد كان سنّي قد كبر قليلاً، وأنا، كما تعرف، طبّاخ ماهر. لقد كانت هوايتي الطّبخ.. أولا تذكر كم قلتم حين كنتم تأكلون ممّا أطبخ (الطّبْخ نفَس)؟”، قلت: “وهل هذا يُنسى؟!”. قال: “وأنت؟”. قلت: “أنا في عُزلة، إلاّ فيما ندر منذ بدْء الخراب العربي الذي عايشناه جميعاً، ولولا أنّ إبني يتكفّل بمعظم ما أحتاجه من دواء، وغيره، لكنتُ في حالة يُرثى لها، فراتبي لا يكفي لشراء أدويتي المُزمنة، وزِيد في طنبور الأوجاع منذ شهرين تقريباً إلتهاب عصب الورك، وتبِعه آلام في الرّكبتين، وقطرات ومراهم للعينين، فأنا – كما ترى – هيكل تحسبه بخير وفيه من الثقوب ما يُضني”. قال: “أين الذي كان يملأ الجوّ مرَحاً، ودبكة، وسهراً حتى مطلع الفجر؟!!”. قلت: “لقد ارتحل هذا كلّه ولم يبق إلاّ ما حدّثتك عنه”. قال: “أتذكُر كيف كنّا نتندّر في مجالسنا عن خوفك من الموت”. قلت: “ولستُ أنساه”. قال: “أما زلتَ على ذلك الخوف؟”. قلت: “الأمر مختلِف الآن.. كنتُ أخشى الموت خوفاً ممّا سيعانيه أبنائي، ولا مُعيل لهم، وأنا، كما تعلم، عشتُ على راتبي، وبعض ما يأتي من كتابات للصحف، أو للإذاعة، وهذا كلّه بالكاد يسدّ بعض الخروق، وأنت تعرف ما قاله إمام البلاغة والفصاحة عليّ (ك): “الأبناء مسألة، مَجْبَنَة، مَبْخلة”، فهم قد يدفعونك أن تسأل من أجل ما تسدّ به حاجاتهم، ويزرعون الجبن فيك فتُحجم عن بعض الأمور لأنّك تخاف عليهم، وقد تَبخَل على نفسك وعلى غيرك من أجل أن تُطعمهم. أمّا عن الموت فإنّي أخاف أن يتأخّر، ولو كان الأمر بيدي لتمنّيتُه اليوم قبل الغد، ولديّ ما يُشبه الرّعب من أن تطول الحياة، فقد وصلنا إلى زمن نَحسد فيه مَن مات قبل بلوغ ما بلغناه، ولا نعرف ما يُخبّئه الغيب، بيد أنّه من الصعب الاطمئنان إليه. أنظرْ حولك، أنا من خلال هذه الإطلالة التي تسمح لي برؤية المارّين في الشارع، أرى بعض ما يجري، وما لا أعرفه أكثر مأساويّة وبلاء، ما تكاد ترى وجهاً فيه شيء من الابتسام، أو الطُمأنينة، فأنت تنام على سعر للحاجيات الضروريّة، وتستيقظ على أسعار مُضاعفة، وفي كلّ يوم يزداد الغلاء، فماذا يفعل الذين يشكّلون نسبة خمس وتسعين بالمائة بأحوالهم، في وقت يسرح ويمرح الذين تغوّلوا في الثراء في ظروف غير صحيحة، وبطرق غير مشروعة؟ فهل خُلق الوطن لهؤلاء؟!! هل هؤلاء هم الذين يدافعون عن حدود الوطن؟!! هل دفعوا قطرة دم واحدة؟!! هل كُتب على الفقراء الذين ذكرنا أن يكونوا القرابين، وأن تترمّل نساؤهم، ولا يعتني أحد بأبنائهم؟!! إنّه شيء أمرّ من المرار، وإذا كنّا لا نفقد الأمل، أو لا نريد أن نفقده، فهل هذا يكفي لانتشالنا من تلك الوحدة التي أوصلنا إليها عدوان أهل الخارج، وما زال مستمرّاً، وتقصير مَن عُهد إليهم بمواقع حساسة من أهل الداخل، وما زال قائما؟!!

رغم ذلك، يا صديقي، سأظلّ أحضّ بقوّة على رفض كل ما يخدش كرامة الإنسان ماديّاً ومعنويّاً…

aaalnaem@gmail.com