كما توقّع.. مذكّرات المجاهد صّياح النّبواني ترى النّور على يد أبنائه
نجوى صليبه
“مذكراتي جزء منّي لا يمكن أن أبيعها، وإذا لم يقيّض لي نشرها تبقى لأولادي من بعدي، فيكملون ما بدأت”.. هذا ما كتبه المجاهد صيّاح النّبواتي في مذكّراته التي دوّنها ووثّقها عن الثّورة السّورية الكبرى، وهذا ما حصل فعلاً، فلم يكتب ليومياته أن ترى النّور إلّا منذ فترة قريبة وعلى أيدي أبنائه وأحفاده، وبالتّعاون مع الدّكتور فندي أبو فخر الذي قدّم كتاب “مذكّرات ووثائق المجاهد صيّاح النّبواني” الصّادر عن دار “دلمون الجديدة” للطّباعة والنّشر.
وخلال النّدوة التي أقامها المركز الثّقافي العربي في أبو رمانة للإضاء على هذه المذكّرات، قال أبو فخر: “ولد صيّاح النّبواني في مطلع عام 1906 وتوفّي في عام 1983. نشأ في بيت والده قاسم النّبواني، وهو رجل له مكانته على مستوى القرية والمقرن، محترم وكلمته مسموعة، وصاحب رأي سديد، وفي مطلع القرن العشرين علّم هذا الفلاح المجاهد بناته وأبناءه، وعاشوا تاريخ الثّورات الوطنية ضدّ العثمانيين، وتالياً تكوّنوا تكويناً وطنياً عميقاً، ومن هذه الأسرة انطلق صيّاح إلى صفوف الثّوار، فماذا أقول في حضرة ثائر حمل السّيف والقلم معاً، وتميّز بسداد الرّأي، وعمق البصيرة، وبعد البصر، والدّبلوماسية الهادئة والنّاجحة، وأنا هنا لا أمدحه، بل أقدّم بعض الوصوفات التي تميّز فيها.
ويلفتُ أبو فخر إلى أمر مهمّ، يقول: “لقد قرأت مذكّرات عديدة حول الثّورة السّورية الكبرى، بعضها نشر وبعضها لم ينشر حتّى اليوم، وللأمانة بعضها لم يأت على جانب مهمّ في تاريخ المجتمع السّوري والحياة الاقتصادية للثّوار والمجاهدين وظروف السّكن والمعيشة”، منوّهاً بأنّ: “الاقتصار على الجانب العسكري في كتابة المذكّرات والثّورات يبتر تاريخ الثّورات والجهاد لأنّ الثّورات بنات المجتمع المدني، أي لدينا علاقات اجتماعية وفلاحون وفقراء ومعدمون”، لذلك يجب أن نفكّر ونتساءل: “كيف ثار المعدمون وامتشقوا السّلاح وقاتلوا الأتراك والفرنسيين وكانوا أصحاب مشروع؟”.
وتحت عنوان: “نظرات في كتاب من الثّورة السّورية الكبرى إلى الاستقلال”، بيّن الدّكتور نايف شقير عميد كلية الآداب في جامعة دمشق ـ فرع السّويداء ـ: “جاءت الأحداث التي سجّلها النّبواني متسلسلة عبر مشاهدات عيانية عاشها بتفاصيلها وأسهم في صنع كثير منها، أو سمع بها من مصدر موثوق، فهي أقرب ما تكون إلى يوميات الثّورة، ولا أستبعد من هذا الوصف ما جاء بعد انتهاء الثّورة والعودة إلى أرض الوطن حتّى نيسان 1979 حيث تنتهي اليوميات، فكلّ ما جاء فيها كان من ميدان الثّورة مباشرة أو امتداداً لها”، موضحاً: “لقد سلّطت اليوميات الضّوء على رجال كان لهم شأنهم في المعارك ومجريات الأحداث، وتغفل عن ذكر كثير منهم الحكايات الشّعبية عن الثّورة وأهلها، كما أنّه لم يغفل عن ذكر بعض النّساء المجاهدات وصلابتهن، فقد نقل على لسان السّيدة ريّا فارس الياسين، “أمّ مؤيد”، وكانت تنفضُ ثيابها من آثار غبار أثارته غارة لطائرة فرنسية: “لا تخافوا.. وهل فراشة كهذه تخيف أبطالاً أمثالكم؟”.
ويقف شقير عند مواقف لافتة للمجاهدين يذكرها النّبواني، من النّباهة إلى إدراك العوامل النّفسية في المعارك، يقول: “ومن ذلك ما ذكره عن رسالة وردت للثّوار قبيل إحدى المعارك الفاصلة من منطقة غرب السّويداء، وفيها قدّم القوم اعتذاراً عن عدم قدرتهم على المشاركة في الثّورة، وطالبوا بضرورة ابتعاد الثّوار عن مناطقهم، وحين اجتمع الثّوار ليعرفوا الرّدّ، بادر المجاهد سليمان نصّار وقرأ من بنات أفكاره: “إنّ القوم يؤيّدون الثّورة ويطلبون من الله النّصر للثّورة والثّوار”.
ويتابع شقير: “لقد وقفت عند جرأة النّبواني في تسمية العملاء بصرف النّظر عن انتمائهم الأسري، واللافت أنّه مسكون بهمّ وطنيّ طاغٍ ينأى به عن الخوض في مستنقع التّحريض المذهبي، ففي الصّفحة (86) يتحدّث عن المعاناة والقهر الذي حاق بالثّوار في منفاهم من المجتمع المحيط بهم في تلك الدّيار.. لقد أظهر النّبواني وعياً متقدماً وفهماً عميقاً للصّراعات التي كانت محتدمة في بيئة الثّوار، فانتبه إلى هذا التّلاعب الفجّ بمصير الثّورة وأهلها من خلال إذكاء الصّراع السّياسي المحتدم بين الأحزاب ومتاجرتها بقضية الثّوار، كما استوقفتي بعض اللمحات الوجدانية التي تفيض أسىً وحزناً على ما آلت إليه أمورهم”.
الدّقة والأمانة في توثيق المعلومة أمرٌ مهمٌّ جدّاً في كتابة المذكّرات السّياسة، وهذا ما حققه النّبواني في يومياته، يقول شقير: “لا يفتأ يؤكّد حرصه على الدّقة والأمانة في توثيق الأحداث، فنقرأ مثلاً في الصّفحة (43): وإليك أيّها القارئ الكريم المعلومات الدّقيقة التي لا نقصد منها إلّا تبيان الحقيقة التي شاهدنا بعضها، وسمعنا بعضها الآخر”.. وفي اليوميات أيضاً تأكيد قيمة الجانب المعنوي وأثره في شحن الثّوار والحرص على السّمعة الحسنة في المواجهات، كما يؤكّد اللحمة الوطنية الحق.
وهذا ما أكّدته الدّكتورة ريم الأطرش -حفيدة سلطان باشا الأطرش – في مداخلتها، تقول: “معظم ما كتبه النّبواني يتوافق والوثائق التي كانت بين يديّ، ولا بدّ أن نؤكّد هنا أنّ الثّورة السّورية الكبرى تمتدّ من عام 1925 إلى عام 1937، وليس كما أرادت فرنسا أن تقنعنا به، وأذكّر أيضاً بأنّ مئوية الثّورة على الأبواب، لذا أتمنّى إحياءها بما يليق بأجدادنا وآبائنا وبالثّورة التي لم تأخذ حقّها جيّداً”.
وبعد قراءته للنّصوص، قال الدّكتور بهجت القبيسي: “وجدت المجاهد النّبواني عربياً وطنياً وسامياً في أخلاقه، وليس لديه مجال للمغيبة، يقول ما في قلبه.. منذ فترة قرأت كتاباً عن عبد القادر الجزائري، وقارنت بين الشّخصيتين فوجدتهما متداخلتين وطنيّاً وثقافياً وإنسانياً”.