هل تورّطت “إيكواس” باقتراح الحل العسكري لأزمة النيجر؟
طلال ياسر الزعبي
لا شكّ أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، لم تكن تتوقّع المعارضة الشديدة لخيار الحل العسكري الذي هدّدت به الانقلابيين في النيجر إذا لم يتراجعوا عن انقلابهم ويعيدوا الشرعية إلى البلاد، رغم أن هذه المجموعة اتخذت قراراتها فيما يخص التعاطي مع مسألة الانقلاب بدعم واضح ومعلن من فرنسا المتضرّر الأول من الانقلاب الذي وقع في النيجر وأطاح بالرئيس الموالي لباريس محمد بازوم، حيث حاولت باريس إظهار تأييدها لقرارات المجموعة الاقتصادية في الوقت الذي لم تعلن فيه صراحة رغبتها في التدخل عسكريّاً في هذا البلد، معوّلة على قدرة غير مسبوقة لهذه المجموعة في إعادة الأمور إلى نصابها، رغم أن لهذا الانقلاب سابقتين في مالي وبوركينا فاسو المجاورتين اللتين تعرّضتا لتجميد عضويّتهما في المجموعة الإقليمية على خلفية الانقلابين اللذين وقع فيهما وأطاح بحكومتين مواليتين لفرنسا هناك.
فرنسا التي أعلنت تعليق مساعداتها التنموية والمنح المتعلقة بدعم الميزانية المخصصة لبوركينا فاسو، توعّد رئيسها، إيمانويل ماكرون، الانقلابيين بالردّ “فوراً وبشدة” على أيّ هجوم يستهدف مواطني بلاده ومصالحها في النيجر، بينما نفت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، اتهامات العسكريين الانقلابيين في النيجر بأن فرنسا تريد “التدخل عسكرياً” في هذا البلد.
وجاء البيان الفرنسي بعد أيام من إعلان بوركينا فاسو ومالي أنهما ستعدّان أيّ تدخل عسكري ضد الحكام العسكريين الجدد في النيجر بمنزلة “إعلان حرب”، ولم يكتفِ البلدان بالتحذير من مغبة التدخل العسكري، بل أبديا رغبتهما في العمل المشترك مع النيجر للتصدّي للعقوبات الاقتصادية والإجراءات السياسية التي تتخذها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، وزار وفدان من بوركينا فاسو ومالي نيامي يوم 7 آب، حيث اتفقت الدول الثلاث على أن العقوبات التي فرضتها “إيكواس” على النيجر “تلحق أضراراً بالسكان وتقوّض الأمن”، وأعلنا دعمهما لسلطات النيجر الجديدة.
ويبدو أن المشهد في النيجر مرشّح للكثير من الاحتمالات باستثناء الحل العسكري الذي لا يبدو أنه قابل للتطبيق في ظل الظروف الدولية القائمة وانشغال حلف شمال الأطلسي “ناتو” في حربه مع روسيا في أوكرانيا، فضلاً عن معارضة الكثير من المسؤولين الغربيين خيار الحل العسكري الذي يمكن أن يؤدّي إلى حرب واسعة النطاق في إفريقيا، والغرب ليس في وارد تحمّل تبعات هذا الأمر الآن.
فقد أكد خبراء سياسيون أفارقة أن المجلس العسكري في النيجر سيتمسك بمواقف متشدّدة، مؤكداً أن عودة الرئيس بازوم إلى السلطة أمر مستبعد، لأن ذلك يستوجب تقديمه إلى المحاكمة، بل سيرسّخ وجوده كأمر واقع، وسيقبل بين دول المنطقة، وسيحاول خلال الفترة القادمة الدخول في عملية سياسية تتعلق باستقالة بازوم، وتحديد فترة انتقالية لإجراء انتخابات وعودة الديمقراطية مرة أخرى، إلى أن يتم الاعتراف به رسمياً، وخاصة أن الفترة القادمة ليست فقط عمليات عسكرية، ولكن هناك عمليات استخباراتية قد تقوم بها “إيكواس” بتحريض من فرنسا ضد المجلس العسكري.
ورغم امتلاك فرنسا شبكة معلومات معقدة للغاية في هذا البلد، إلا أنها لن تتمكّن من التدخل فيه عسكرياً بمفردها، ورغم أنها تدرك جيّداً أن خروجها من هذا البلد سيؤدّي إلى خسارة مصالحها الاقتصادية والسياسية ونفوذها الجيوسياسي، غير أنها ليست في وضع دولي يمكّنها من فرض الحل، وخاصة أنها تعاني أسوأ أزماتها الاقتصادية على الإطلاق على خلفية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا من جانب واحد، التي أتت على ما تبقّى من قدرة اقتصادية وسياسية وعسكرية لها في العالم.
ومن هنا، سيقوم المجلس العسكري خلال الفترة القادمة، بتوظيف الصراع الجيوسياسي بين الدول العظمى لتحقيق مصالحه، وترسيخ وجوده، وسيعطي إشارة للغرب بالحفاظ على مصالحه الاستراتيجية والحفاظ على وجوده، في الوقت الذي سيعمل فيه على الحصول على الشرعية في الداخل، يساعده في ذلك تأييد شعبي واسع للانقلاب الذي قام به، ورفض عسكري واضح لدول الجوار للحل العسكري الذي يمكن أن يتدحرج إلى حرب واسعة في إفريقيا، وهذا ما ترفضه دول مؤثرة في الإقليم وخاصة الجزائر التي أعلنت رفضها لهذا القرار لما له من أثر قوي على أمنها القومي والسلام في المنطقة برمّتها.
والغريب في الأمر أن الولايات المتحدة لم تُبدِ إلى الآن موقفاً واضحاً من الانقلاب الذي وقع في النيجر رغم ادّعائها الحفاظ على مصالح حليفتها فرنسا هناك، وربما تكون لها اتصالات سرية مع قادة الانقلاب العسكري، من وراء الكواليس، بسبب حرصها على وجود قواتها في المنطقة، التي تبلغ حوالي ألف جندي، ولها مصالح جيوسياسية، ولها قاعدتان عسكريتان للطائرات دون طيار في النيجر، وتريد أن تبقى في النيجر، ولا تترك نفوذ المنطقة للوجود الروسي والصيني، وطبعاً كل ذلك على حساب شركائها، وهذا ما سيتيح للمجلس العسكري توظيف تباين الرؤى حول العملية العسكرية، وخاصة معظم دول الجوار ومعظم الدول الإفريقية التي ترفض أي عمل عسكري.
ومن هنا جاءت زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، إلى النيجر لدراسة المشهد القائم عن كثب، في محاولة ربّما لبناء علاقة مع الحكام الجدد بعيداً عن حليفتها فرنسا التي تيقّنت أنها أصبحت خارج التداول، ولكن زيارتها هذه لم تكن مثمرة، على الرغم من محادثاتها “الصريحة” على حدّ زعمها، حيث لم تتمكّن من لقاء الرئيس المخلوع، وعقدت اجتماعاً مع رئيس الأركان العامة لقوات النيجر المسلحة، موسى سالو بارمو، وقالت في مؤتمر صحفي عقب الاجتماع: إن تصرّفات الجيش الذي استولى على السلطة في النيجر، لا تتوافق مع دستور البلاد، لكن الولايات المتحدة ستواصل البحث عن سبل دبلوماسية لحل النزاع.
وفي السياق ذاته، جاءت محاولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الذي أجرى محادثة هاتفية مع رئيس النيجر محمد بازوم، دعا في أعقابها المجلس العسكري إلى إطلاق سراحه هو وعائلته، وذلك لتكثيف الضغط على المجلس والإيحاء بأن واشنطن قادرة على التدخل ولكنها لا تريد ذلك، وهي تجنح حالياً إلى التفاوض مع الانقلابيين والوصول معهم إلى اتفاق، وعندها يمكنها مباركة هذا الانقلاب.
ولكن التأييد الشعبي للانقلاب في النيجر، حيث تجمّع عشرات الآلاف من أنصاره في العاصمة نيامي، قبل ساعات من انقضاء مهلة “إيكواس” لإعادة الرئيس المخلوع، وتوافد المتظاهرين الذين لوّحوا بأعلام النيجر وروسيا وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى الدعم العسكري الذي تلقّاه العسكريون من نظرائهم في مالي وبوركينا فاسو، الذين وصلوا إلى السلطة أيضاً من خلال انقلابين في عامي 2020 و2022، حيث اعتبرت باماكو وواغادوغو أن أيّ تدخل في النيجر سيكون بمنزلة “إعلان الحرب” عليهما، كل ذلك جعل العديد من المسؤولين الغربيين يحذرون من مغبّة أيّ تدخل عسكري في هذا البلد، حيث قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني: إن “أوروبا منخرطة في العديد من الجبهات العسكرية وأولها أوكرانيا، ولا يمكنها فتح مواجهة أخرى في إفريقيا”، مؤكّداً أن أوروبا لا تتحمّل مواجهة مسلحة ولا يجب أن يُنظر إليهم هناك على أنهم مستعمرون جدد لإفريقيا، بل يجب إنشاء تحالف جديد مع الدول الإفريقية بعيداً عن الاستغلال.
بالإضافة إلى ذلك تعاني نيجيريا التي كانت في طليعة تهديد “إيكواس” باستخدام القوة العسكرية ضدّ مدبري الانقلاب في النيجر، عجزاً واضحاً عن التدخل العسكري بالنظر إلى الأزمات السياسية والأمنية التي تعانيها أصلاً، فضلاً عن انضمام دول إفريقية عديدة إلى معارضة العمل العسكري.
غير أن الأنباء تتحدّث أيضاً عن عجز واضح عن التدخل عسكرياً فيما يخص مجموعة “إيكواس” التي أكّد قائد عسكري رفيع المستوى فيها أن القوات المسلحة لبلدان المجموعة يلزمها الوقت للتحضير لدخولها إلى النيجر “لأن نجاح العمل العسكري يعتمد على الاستعداد الجيد له”، وخاصة أن المجلس العسكري في النيجر أعلن عن إغلاق المجال الجوي للبلاد “في مواجهة التهديد بالتدخل الذي بدأت تتّضح معالمه انطلاقاً من البلدان المجاورة”.
والأهم من كل ذلك التحذير الذي أطلقه القائد الأعلى السابق لقوات حلف “الناتو” في أوروبا جيمس ستافريديس من أن الوضع في النيجر قد يتحوّل إلى صراع عسكري واسع النطاق في إفريقيا، ويبدو أن الحلف الآن لا يستطيع تشتيت انتباهه عما يحدث الآن على حدوده مع روسيا.
ومن هنا، فإن الجميع راح يدعو إلى تمديد المهلة التي منحتها مجموعة “إيكواس” الإفريقية للمجلس العسكري بالنيجر، لإعادة الرئيس المخلوع إلى منصبه، وذلك طبعاً يسير في الاتجاه الذي رسمه المسؤولون عن الانقلاب، وبالتالي يبدو أنه من غير المتوقّع أن تتمكن المجموعة الإفريقية من تنفيذ تهديدها بالتدخل العسكري، وهذا ما يجعل القوى الغربية التي تنتظر استخدام الجيوش الإفريقية في التدخل بالنيجر حصان طروادة للوصول إلى هناك عاجزة عن تحقيق أيّ شيء، وخاصة أنها عاجزة تماماً عن التدخل في هذه البيئة لما فيها من مخاطر كبيرة عليها، وخاصة أن المناخ العام السائد في الدول الإفريقية أن الغرب لا يسعى حقيقة إلى صناعة تنمية حقيقية في هذه الدول، وإنما يبحث فقط عن تحقيق مصالحه، وهذا ما يجعله متردّداً بين عمل عسكري غير مضمون النتائج ربما يفتح المجال واسعاً لتغلغل صيني روسي في هذه المنطقة على حساب انحسار نفوذه عنها، وبين التفاوض مع الانقلابيين في محاولة لاستمالتهم.