سباق القوة والنفوذ والقواعد في العالم
ريا خوري
منذ أن تمّ الإعلان عن نهاية الحرب العالمية الثانية، عكف عدد كبير من الخبراء والمفكرين الاستراتيجيين على رسم تصورات جديدة عن ملامح للقوة العالمية التي تفرض هيمنتها وقوتها على العالم، وقد أطلق حينها مصطلح العالم ثنائي القطبية بعد نهاية الحرب، وقيام الاتحاد السوفييتي السابق ممثلاً عن الكتلة الشرقية من العالم، في مواجهة الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
اتخذ هذا النمط الثنائي من قيادة العالم نظاماً مستحدثاً للصراع عُرِفَ بالحرب الباردة تجنّباً لأي صدام عسكري الذي بقيت تناوشه مخاوف التراشق النووي وأسلحة الدمار الشامل بينهما، وبقي هذا الهاجس يتقلّص تدريجياً حتى تلاشى من مخيلة القادة والمفكرين والشعوب لصالح الصراع الاقتصادي، والسباق العلمي والمعرفي في أوّل القرن الحالي الحادي والعشرين، فتحوّلت منظومة الصراع العالمي إلى حرب أكثر برودةً من سابقتها، فلم يعد تقدير وتقييم الدول القوية يقف على حسابات القوة الصلبة أو الخشنة كمعيار حاسم للتواجد الدولي العالمي، وكذلك لم يعد التواجد العسكري في الذهنية العالمية له أثر كبير كما في تلك الحقبة.
وبدلاً من توازن القوى العسكرية، تظهر قوائم الناتج القومي للاقتصاد العالمي كخريطة دالّة على قوة ونفوذ الدول والشعوب، وفي هذا السياق نجد أن الحضور القوي للاقتصادين الصيني والأمريكي يغيّر من منهج النظرة السياسية لطريقة إدارة العالم وقيادته، وقد ساعد على ذلك الانفتاح الهائل في التواصل العلمي والتقني والمعرفي، وأصبح النموذج الذي يقوم عليه التنافس، بحيث بات الصراع الجديد ليس القدرة على الصدام العسكري بقدر ما هو القدرة على ضمّ الكتائب العلمية والمعرفية من شعوب العالم إلى لواء المنظومة الأكثر قدرةً على تصدير الفكرة، والسيطرة على عقول وذهنيات الشعوب، والتي باتت هي المعيار الذي يقوم عليه تقدير وتقييم القوة والنفوذ المعاصرة.
من هنا فإنه مع احتدام المنافسة الدولية لبسط القوة والهيمنة والنفوذ على العالم، بدأت تظهر ملامح ساحة جديدة للصراع في العالم، محورها الأساس القواعد العسكرية سبيلاً للتوسع والسيطرة لفرض الهيمنة في العالم، وحماية مصالح الدول، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة.
على هذه الخلفية، دخلت الصين في سباق إقامة القواعد العسكرية في بعض دول العالم كخطة وقاية استراتيجية، والتوسع في بناء هذه القواعد على امتداد الساحة العالمية لضرورات أمنية وتجارية واقتصادية.
فالصين بكامل ثقلها الاقتصادي والعسكري والسياسي تدرك أنها باتت محاصرة بالقواعد والأحلاف الأمنية والعسكرية، وخاصة حول شبه جزيرة تايوان بؤرة الصراع الأساسية بالنسبة لها، وفي بحر الصين الجنوبي والمحيطين الهندي والهادي، ولم يعد أمامها سوى البحث بشكلٍ سريع عن إقامة قواعد عسكرية في الخارج للإفلات من هذا الحصار والخطط الغربية الأمريكية- الأطلسية، وتأمين مصالحها الحيوية. ومع أن الصين ليس لها باع طويل في هذا السياق، مقارنةً بالولايات المتحدة التي تنشر قواعد عسكرية، ومنصات أمنية على مساحاتٍ واسعة من العالم، بينما لا تمتلك الصين سوى قواعد قليلة جداً في العالم، أبرزها في كوريا الديمقراطية، إلا أنّها بدأت تحقق خطوات مهمّة في هذا الإطار، بعضها يمثّل اختراقاً قوياً لمناطق النفوذ الغربية، كما هي الحال في القارة الإفريقية، وجزر سليمان الواقعة في المحيط الهادي، والتي وقّعت معها اتفاقية أمنية استراتيجية وسط مؤشّرات على إقامة قاعدة عسكرية فيها، لكن يبقى الأهم من كل ذلك هو المنافسة الدائرة في القارة الإفريقية السمراء، إذ من المعروف أن تواجد الصين في القارة الإفريقية حديث العهد، ولديها قاعدة في جيبوتي وهي دولة عربية تقع في منطقة القرن الإفريقي في البرّ الرئيسي لقارة إفريقيا، تلك القاعدة مخصّصة لحماية مصالحها الاقتصادية من دون وجود أي مؤشر على استخدامها الآن.
لكن الصين باتت مرشّحة لإقامة سبع قواعد جديدة في دول إفريقية أخرى خلال السنوات القليلة القادمة، وهذا مهمّ جداً في إطار التنافس المحموم بين الرباعي الدولي الذي يسعى إلى الهيمنة، والسيطرة على القارة الإفريقية، وهو الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوروبا والصين.
من المعروف في هذا السياق أن الولايات المتحدة لديها العديد من القواعد العسكرية، إلى جانب مقرّ للقيادة العسكرية الأمريكية في القارة الإفريقية (أفريكوم)، لمراقبة أنشطة الصين وروسيا على وجه التحديد، بينما الدول الأوروبية هي صاحبة نفوذ تقليدي في القارة السمراء، كما أن روسيا تمتلك علاقات تاريخية قوية مع كثير من دول القارة السمراء، فيما جمهورية الصين بدأت تدخل في صلب المنافسة المحمومة وخاصة مع تعاظم التقارب الصيني– الروسي.