نقوش الزمان ضمائر مستترة لفنون المكان
غالية خوجة
ليست الأماكن القديمة وحدها شخصيات مستدامة، لأن الجنود المجهولين من مهندسين ومصممين ومدراء ومشرفين وعمال ومهنيين وبنّائين وفنانين يشكّلون مجموعة من أفعال الضمائر المستترة في البناء والترميم وإعادة التأهيل لتستعيد هذه الأماكن الأثرية العريقة أشكالها بعد الحرب والزلزال.
ومن هؤلاء الذين لا تهمهم الشهرة، بل آثار أعمالهم الفنان النحات محمد الدباس ـ رحمه الله ـ الذي شارك في إعادة صياغة الفنون اليدوية المكانية العريقة ومنها نقوش العديد من المباني مثل جامع الصالحين الذي يقع ضمن مقبرة الصالحين التي ترجع قبورها لعصور مختلفة مثل السلجوقية والزنكية والأيوبية والعثمانية، ومنها قبور لعلماء وصالحين، كما يتميز هذا الجامع المشيّد منذ عام 1105 ميلادية باحتضان محرابه لصخرة ناتئة يقال بأن إبراهيم الخليل عليه السلام جلس عليها وهو يودع حلب، ويقال بأن قدمه مطبوعة على هذه الصخرة.
واعتدنا في وطننا الحبيب سورية أن نشعر بالروحانية في كل مكان، فتتدلّى عرائش قلوبنا الصافية من الغيوم، وتنتشر بين النجوم، فلا نملّ من الأمل والعمل، تماماً، كما لا تملّ أرضنا وسماؤنا من هويتها الحضارية، وكذا تفعل زخارف المحراب الحجرية، فلا تملّ من إنشاد نيتها الصافية لمختلف العصور، فتدخل مع الداخلين إلى هذا الجامع الشهير بمقام الصالحين من باب حجري بازلتي، لتدور بعدها بين الغرف والفضاء كما مولوية جلال الدين الرومي وهو يقول: “النور الذي في العين ليس إلاّ أثراً من نور القلب، وأمّا النور الذي في القلب فهو من نور الله، القلب جوهر والقول عرَض، القول زائل والقلب هو الغرض”.
ولأن من الحجارة “لما يتفجر منه الأنهار” (سورة البقرة)، فإن لهذه الحجارة حكايات من العطاء والنور يدركها، بلا شك، الإنسان المتمتع بقلب بصير، وفي هذه الصورة للفنان المرحوم الدباس، يظهر كيف يتبادل قلبه المحبة مع نبضات الحجارة، فتتزين بالدقة الفنية المنسجمة ضمن موسيقا إيقاعية تحتفظ مسامها بالحنين لكل مَنْ مرّ وسيمرّ مِنْ هنا، ولكل من حفر تزييناتها وزخارفها ونقوشها، لتظل فنياتها المكانية تحكي سيرتها بأحداثها وتفاصيلها وشخوصها لجماليات الزمانية.