ثقافةصحيفة البعث

ناجي العلي.. ريشة عصية على النسيان

أحمد علي هلال

لم يعد السؤال من قتل ناجي العلي، ونحن نستعيد استبطاناً ذات سؤال روائي حملته رواية غسان كنفاني الشهيرة “الشيء الآخر أو من قتل ليلى الحائك”، على الرغم من زمن مضى بعينه بين استشهاده وإصابته ودخوله حيّز الغيبوبة.. فناجي العلي الأيقونة الفلسطينية في الوعي الجمعي الثقافي الفلسطيني والعربي والعالمي، حمل فنه إلى العالم ومن بقعة جغرافية ضيقة (عين الحلوة) ليقف ساخراً ومتندراً بخطوطه البيضاء والسوداء وتعليقاته الفادحة السخرية، مقارباً القضية الفلسطينية بمراحلها المختلفة وتحولاتها العاصفة، ناجي العلي الاسم والدلالة في الذاكرة البعيدة والقريبة بآن، مهماز مثقف نوعي، كان الباحث والمنقّب عن أعتى الأسئلة الوجودية وعن مفارقات الحياة السياسية الفلسطينية، ليرسم موقفاً ويجهر برؤيا عابرة لزمنه، صوب أزمنتنا الجديدة، فلا أسئلة قديمة البتة، بل هي جدلية القضية والإنسان، والبحث عن الحقيقة في الأزمنة المالحة بوساطة فن أقوى من النسيان والغياب، ليُستعاد ناجي الآن وفي كل وقت ومعه يُستعاد تاريخ حافل بالمواقف والنبوءات والاستشراف والتجاوز والسخرية المرّة، التي ترسم آلاف الضحكات، لكنها تُشعل في الوعي كل شراراتها، لم يرسم فحسب، بل كان مقاوماً بوساطة فنه الأبقى، وعلاقة ريشته بالجرح المفتوح والممتد والمشتد أجيالاً وأزمنة وأمكنة وأحداثاً، فهو حارس الوعي وضميره الذي لا تغيبه طلقات كاتم الصوت، كانت طلقات كواتم مسدساتهم مشرعة على صدر فلسطين لينجو ناجي الرمز بفطنة خطوطه وحنكة ألوانه، فلا شيء سوى الخطوط البيضاء والسوداء، وليست الخطوط الرمادية في أزمنته كلها فهو خطّ الأفق لمن أراد استقراء هذه التراجيديا الفلسطينية من أول الجرح إلى فجر الرصاص.. كان المقاوم والشهيد والشاهد وتلك أسماؤه الحسنى، التي تجتمع في سدرة المنتهى: المثقف الشهيد، ولم يدر بخلد القتلى أن ناجي العلي أقوى من النسيان، فمحض جسد فحسب أصابه الرصاص، لكن القضية ظلت كما الأشجار واقفة في مهرجان النار، تقاوم رياح السموم وتمدّ جذورها في عميق الأرض أبداً، ناجي العلي يعود ليملأ مساءاتنا وصباحاتنا بما يراه وبما رآه، وليكتمل فجر الرؤيا فيما دونته رسوماته التي تجاوزت الألف بكثير، وظلت تزين صدر الصحف والمجلات وافتتاحياتها الباهرة، نستعيد ذلك الحدث/ الاستشهاد بما أمكن من التأويل الفادح ما بين حياته واستشهاده وقوة المعنى الذي ألحّ عليه وتواتر في رسوماته ليخلق حالة جدلية متقدمة في الوعي، بضميره المسلح وبدوره الفاعل الذي استنهض التاريخ والمخيم والشهيد، والذاكرة الفلسطينية ليكونوا رواته في أزمنته القادمة، رواة عدالة القضية وبراءتها ممن سعوا إلى تغييبها، وشُبّه لهم ذلك، وكيف سيغيب ناجي وهو الحاضر بقوة في مدارج الرؤيا وفي وعي الهزيمة والجسارة، والتناقض الرئيس مع كيان غاصب وعابر.

يذهبُ ناجي العلي إلى معارج الخلود، باقياً، رغم قسوة الغياب، بمآثره كلها. ويوم تعيد الأجيال تأويل خطوطه ومسافاته وتوشيحه على الجرح الفلسطيني، تعيد استنهاض القضية ومساراتها، لتبقى فلسطين عصيّة على الموت والنسيان والغياب.. تلك هي جدلية المثقف المشتبك في الأزمنة الجديدة، الناجي الذي نجا بفلسطين من بحرها إلى نهرها، ونجا فكره من أصابع الموت، ونجت ريشته من الكسر أو المحو، ريشة عصيّة على النسيان.