صعود الجنوب العالمي
عناية ناصر
أدت الحرب في أوكرانيا والتي طال أمدها لأكثر من عام، إلى تحول سريع في المشهد الدولي. وكان أحد التغييرات البارزة هو صعود الجنوب العالمي ودوره المتزايد الأهمية في النظام الدولي، حيث حصلت البلدان النامية على مجال للمناورة في لعبة القوى الكبرى، وازداد نفوذها السياسي بسرعة. وفي هذا السياق حافظ الجنوب العالمي على استقلاله الدبلوماسي واستقلاليته الإستراتيجية على خلفية الأزمة الأوكرانية، واتخذ مساراً وسطياً لتسريع صعوده كقوة ناشئة في السياسة العالمية.
بعد اندلاع الحرب، لم تنحاز العديد من دول الجنوب إلى أي طرف أو تخضع لضغوط الولايات المتحدة للانضمام إلى معسكر إدانة ومعاقبة روسيا، ويمثل هذا بداية انفصال الجنوب العالمي عن سيطرة القوى الكبرى، وإعادة تموضع مكانته ودوره الدوليين، والسعي إلى الثقة الإستراتيجية بالنفس والاستقلال الذاتي.
تتضمن تصورات دول الجنوب حول الأزمة الأوكرانية وأفعالها النقاط التالية:
- أولاً، اتخاذ موقفاً محايداً من قضية أوكرانيا، حيث تعتقد دول الجنوب العالمي عموماً أن الحرب في أوكرانيا هي صراع ظاهري بين روسيا وأوكرانيا، لكنها في الواقع مواجهة إستراتيجية بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى. وباعتبارها القوة الأساسية للجنوب العالمي، فقد اتخذت دول “البريكس” حكمها بشكل مستقل على أساس تاريخ القضية ومزاياها، وحافظت على موقف محايد ومتوازن بين طرفي الصراع وكذلك بين الولايات المتحدة وروسيا.
- ثانياً، لعب دور الوسيط، إذ تعتقد دول الجنوب العالمي عموماً أن قضية أوكرانيا لا يمكن حلها في ساحة المعركة، وتدعو إلى حلها من خلال الوسائل السياسية والدبلوماسية، فمنذ بعض الوقت، كانت البلدان النامية هي الشخصيات الرئيسية في الساحة الدبلوماسية في التعامل مع الأزمة الأوكرانية. تبذل الصين والدول الإفريقية والبرازيل ودول أخرى جهوداً لتعزيز محادثات السلام، وقد أظهرت الجهود الدبلوماسية لجنوب الكرة الأرضية قوة قوى السلام.
- ثالثاً، الدفاع بحزم عن مصالحها الخاصة، فقد كانت الدول النامية ضحايا أبرياء للصراع بين روسيا وأوكرانيا، والعقوبات أحادية الجانب التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب على روسيا تسببت في كارثة اقتصادية خطيرة . ونتيجة لذلك، يواجه العديد من البلدان النامية مخاطر على الطاقة والأمن الغذائي وتدهور حاد في بيئة التنمية. كما فاقمت أزمة أوكرانيا من صراع المصالح بين دول الجنوب والولايات المتحدة والغرب، ومن المستحيل عليهم الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا، لأن ذلك سيكون ضد مصالحهم الخاصة .لذلك ، فهم يسعون إلى حل لأزمة أوكرانيا يختلف عن حل الولايات المتحدة والغرب.
يعكس صعود الجنوب العالمي اتجاه التحول من الغرب إلى الشرق في ميزان القوى في عالم اليوم، حيث لم تعد الدول النامية مهمشة من قبل المجتمع الدولي، وتعتمد على القوى الكبرى، وتحت رحمة الآخرين، بل برزت كقوة مهمة على الساحة الدولية. لقد شهد الحجم الاقتصادي لهذه البلدان وديناميتها الدبلوماسية وخطابها الدولي تغيرات جذرية، ولم تعد مواقفها ووجهات نظرها غير ذات صلة. لقد منحتهم قوتهم الاقتصادية المتصاعدة ونفوذهم السياسي ثقة إستراتيجية ودفعتهم إلى إظهار المزيد من الاستقلالية الإستراتيجية.
إن المشاركة النشطة للبلدان النامية في الشؤون الدولية لها أهمية كبيرة في تعزيز بناء عالم متعدد الأقطاب وتطوير التعددية، إذ لا يمكن أن يراكم هذا طاقة إيجابية لمفاوضات السلام فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى ممارسة المزيد من الضغط السياسي والدبلوماسي على الولايات المتحدة والغرب، وبذلك لن يتمكن الأخير من تنفيذ الأحادية والحفاظ على الهيمنة أحادية القطب.
لقد أصبح التركيز على التنمية الاقتصادية، والحفاظ على الاستقلال والحكم الذاتي، وتعزيز التضامن بمثابة إجماع للدول النامية، كما أن صعود الجنوب العالمي، باعتباره الاتجاه التحولي الأبرز في النظام الدولي بعد الأزمة الأوكرانية، سيعزز بناء نظام دولي عادل ومعقول.