بكين تسير بخطوات متسارعة لتحقيق “الحياد الكربوني”
إبراهيم ياسين مرهج
قضية التغيّر المناخي والاحتباس الحراري من القضايا التي تشكل هاجساً للعالم أجمع بسبب تأثيرها الخطير على الحياة في الأرض، فالأبحاث التي أجرتها الأمم المتحدة أظهرت أنه سيصاحب ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين، المزيد من موجات الجفاف الشديدة والفيضانات المدمّرة وحرائق الغابات والعواصف.
وبالعودة إلى مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ عام 2018، فإن كلام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش خلاله كان يحمل تحذيراً كبيراً للعالم أجمع من التغيرات المناخية، حيث قال: “نحن في ورْطة كبيرة، وإن إضاعة هذه الفرصة (في إشارة إلى المؤتمر) لإيقاف تغير المناخ، لن يكون الأمر أخلاقياً فحسب بل سيكون انتحاراً”.
وباعتبار أن الدول الصناعية الكبرى هي المسؤول الأول عن النسبة الأكبر من انبعاثات الكربون، فإنها تتحمّل المسؤولية عن خفض هذه الانبعاثات، وتعدّ الصين كلمة السر في الحدّ من تغيّر المناخ ومساعدة العالم على الاقتراب أكثر من تحقيق الأهداف المناخية المشتركة، بالنظر لكونها أكبر مستهلك للطاقة عالمياً، وأكبر دولة مطلقة للانبعاثات الضارة بالبيئة بنسبة ثلث انبعاثات العالم الكربونية.
ومع علم الصين أنه لا يوجد وسيلة للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية من دونها، وأن وتيرة خفض الانبعاثات فيها سيكون عاملاً مهمّاً في الجهود العالمية في هذا الشأن، فإنها تسعى وبخطة طموحة لتحقيق “الحياد الكربوني” بحلول عام 2060، الأمر الذي سيمكّنها بمفردها من خفض درجات الحرارة العالمية بمقدار 0.25 درجة مئوية، كما تشير بعض التقديرات.
السعي الصيني تحركه أيضاً أهدافها الداخلية في تحقيق التنمية المستدامة، ولاسيما أنها تعتبر من أكبر دول العالم من حيث عدد السكان (وصل إلى نحو 1.412 مليار نسمة عام 2023)، كما أن قيادتها تطمح إلى تأمين حقّ شعبها في الحياة الكريمة مثل جميع شعوب العالم، وهي في الوقت نفسه تعلم أنه لا يمكنه أن يحظى بذلك مع استمراره في الاعتماد على مساعدة الغير، وبالتالي لم يكن هناك طريق أمامها لخلق هذه الحياة الجميلة المنشودة سوى اللجوء إلى التنمية الحديثة، أولاً وثانياً وثالثاً بجهود شعبها الذاتية.
كذلك يدفع الصين لتحقيق الحياد الكربوني، النمو السريع الذي وصلت إليه بعد تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح منذ أكثر من 40 سنة، مما أدى إلى خلق معجزة نادرة من نوعها في تاريخ نمو البشرية، ونجاحها في “المعركة الحازمة” للحدّ من الفقر في نهاية العام 2021، وفي الوقت نفسه محاولتها للتوفيق بين التنمية الحديثة وحاجتها إلى استهلاك كبير للطاقة، ولاسيما أن حصة الفحم والنفط والغاز ظلت تمثل 80% من حاجتها للوقود اللازم لتوليد الكهرباء، مع سعيها في الوقت ذاته لخفضها إلى 14% في حدود 39 عاماً.
هذه الجدية والمثابرة في الحفاظ على مستويات الإنتاج في الصين، وحتى زيادتها في الوقت الذي تتجه فيه البلاد إلى الحياد الكربوني بخطوات متسارعة ما كانت تتحقق لولا ما كان قد أعلنه الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في الدورة الخامسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2020، من أن بلاده تسعى بجهودها القصوى إلى بلوغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ذروتها في الصين قبل حلول عام 2030، وتحقيق حياد الكربون قبل عام 2060، كما أصدرت القيادة المركزية الصينية “اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومجلس الدولة” وثيقتين في تشرين الأول 2021، تتضمنان “إرشادات العمل لتحقيق بلوغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ذروتها والحياد الكربوني”، و”خطة العمل لتحقيق وصول الانبعاثات الكربونية ذروتها بحلول عام 2030”.
وتتضمن الأفكار الرئيسية للوثيقتين، إدراج الأهداف المذكورة أعلاه في خطط التنمية الطويلة والمتوسطة الأجل لدفع “الانتقال الأخضر” للمجتمع الصيني، وتعديل هيكل الصناعة مع تسريع تنمية الصناعات الخضراء، وتسريع تنمية الطاقات الجديدة غير الأحفورية مع ترشيد استخدام الطاقة في جميع المجالات، كما تتمثل في رفع قدرة بالوعة الكربون للنظام الإيكولوجي، وإكمال منظومة قانونية مختصة في هذا الشأن وما إلى ذلك.
بالإضافة إلى ذلك عملت القيادة الصينية على إنشاء سوق للكربون على مستوى الدولة، وإطلاق آلية داعمة للحدّ من الانبعاثات الكربونية من قبل البنك المركزي، كما زادت لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية (CSRC) من الدعم التمويلي للمشاريع الخضراء منخفضة الكربون، وفي الوقت نفسه استفادت القيادة الصينية من التكنولوجيا الفائقة، من خلال إطلاق قمر صناعي “قومانغ” (اسم آلهة الربيع في الأساطير الصينية القديمة، وهي تحكم نمو الأشجار) لرصد الكربون في النظام الإيكولوجي، مع التركيز على تأسيس معاهد أبحاث وأكاديمية للعلوم في قطاع تحييد الكربون.
وقوبلت الجهود الصينية بترحيب كبير من المدير التنفيذي لوكالة الطاقة، فاتح بيرول الذي قال: “إن الصين تُعدّ مركزاً للطاقة النظيفة، كما أنها أدّت دوراً رائداً في العديد من قصص النجاح العالمية”، مضيفاً: إن جهود الصين لتحقيق طموحها في حياد الكربون ستؤدي لازدهار مجموعة واسعة من التقنيات للحدّ من الكربون، فضلاً عن انخفاض كبير في استخدام الوقود الأحفوري في العقود المقبلة.