التوافق والمصالحة قبل الانتخابات الليبية
ريا خوري
لأنّ الأزمة في ليبيا حادّة نجدها ما زالت غارقة في متاهاتها الممتدة منذ أكثر من اثني عشر عاماً ونيّف، ولم تفلح الجهود المبذولة والمبادرات المتعدّدة في رسم خريطة طريق ناجحة، أو عملية تفضي إلى تجاوز المراحل الصعبة وتتجاوز العقبات القائمة، وإجراء انتخابات حقيقية وشفافة تنتج نخبة قادرة على الحكم وإدارة البلاد بما يلبي الطموحات التي تمّ الإعلان عنها، ويحقّق الحلم الذي يراود غالبية الشعب الليبي.
وتتعلق الطروحات والقضايا التي يتمّ تداولها حول ليبيا بإمكانية إجراء انتخابات حرّة نزيهة وشفافة، لكن الحقيقة التي يتجاهلها كثيرون أن الحالة الليبية لا تساعد حتى الآن على ولادة شرعية مقنعة لجميع الأطراف المتنازعة. كما أنّ الضمانات من أطراف عدة بأن إجراء انتخابات سينهي الأزمة غير متوفرة إلى هذا اليوم، ولاسيما أن ما جرى بعد انتخابات عام 2014 ليس ببعيد، فمنذ تلك اللحظة انقسمت البلاد بين غربٍ وشرق، ومدنيين وعسكريين، وميليشيات، وتجمعات وجماعات عسكرية متعدّدة وحكومة معترف بها وأخرى بأمر الواقع. وقد أدّت هذه الحال إلى اندلاع حرب أهلية دامية في السنوات القليلة الماضية، وتوقفت بموجب هدنة في فترة محدّدة، وليس بفعل اتفاق شامل جامع.
بعض الخبراء والمراقبين يؤكدون أن الأزمة الليبية لا يمكن أن تنتهي طالما هناك خلافات جوهرية حول الانتخابات، لكن في حقيقة الأمر يجب أن تكون الانتخابات المفترضة نتيجة وليس بداية، فقبل بدء الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع وفرز شرعية جديدة، يجب أن تتحقق مصالحة وطنية شاملة على أرضية صلبة تشارك فيها كلّ الأطراف ذات الصلة، وعلى أساس تلك المصالحة ينشأ ميثاق وطني جديد جامع مانع يسمح بإرساء دستور وقوانين وتشريعات انتخابية ملزمة.
لهذا السبب، تؤدي الشخصيات المتحكمة في المشهد دوراً مزدوجاً غير واضح المعالم، فهي من ناحية تتظاهر بالحرص على إجراء الانتخابات بشكل ديمقراطي، وتطالب بالتعاون مع المبعوث الأممي الخاص عبد الله باتيلي، وتعمل في الوقت نفسه على خلق الحواجز والعقبات والعراقيل، وافتعال الخلافات لإجهاض خطة الانتخابات وترحيلها إلى وقتٍ آخر غير معلوم.
المشكلة في الأمر أنّ المعرقلين الذين يضعون العصي بين العجلات غير واضحين تماماً، وحتى إذا تحدّدت هوياتهم وتوجهاتهم وأهدافهم فإن معاقبتهم ستضع عقبات إضافية أمام هذا المسار، وربما يتدهور الوضع القائم في ليبيا إلى الأسوأ وتعود رحى الحرب والصراعات من جديد لتطحن ما تبقى من مخلفات أزمة بنيوية حادّة طالت أكثر مما يلزم.
من هنا، لا تبدو ليبيا اليوم بحاجة إلى انتخابات بقدر ما هي بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى مصالحة وطنية حقيقية تجمع الكلّ الليبي، فإذا تحقق هذا الهدف أصبحت كلّ الاستحقاقات ممكنة وسهلة، فبالمصالحة يمكن توحيد المؤسّسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ويمكن بناء المؤسسات والإدارات والهيئات الوطنية وبها يمكن حلّ الميليشيات وطرد المرتزقة والمجرمين والقتلة، وبلورة رؤية وطنية لبناء المستقبل المشترك لجميع الليبيين. وعن طريق المصالحة أيضاً، تستعيد شريحة واسعة من الليبيين حقوقها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويعود اللاجئون من المنافي والمَهَاجر، وحين تتحقق هذه الشروط يمكن أن تكون الانتخابات بنّاءة ومثمرة، وتطوي إلى غير رجعة، صفحة من الخلافات والنزاعات والفتنة والصراعات الدامية.