ناس ومطارح.. وفاء علي منصور: أن تسير الدرب.. مهم بقدر الوصول
مجموعة من الصور المبهجة والعاطفية في آن، تظهر فيها عدة نساء يشكلن ما يشبه القوس، حول امرأة مبتسمة، تنظر إلى الكاميرا برضا ومحبة، بينما رفيقاتها يحطنها بالضحكات والأماني.
هذه الصور البسيطة والموحية والعميقة، حملتها صفحات الفيس الخاصة بمنشأة تعليمية في جرمانا، وهي مدرسة “همام فلوح”، التي أدارتها المعلمة والمرشدة التربوية وفاء علي منصور، -60 عاما-بحكمة العلم، وعاطفة الأمومة، برقة الأخوة، وحزم الصداقة، حتى اليوم الذي التقطت فيها هذه الصور لها، وهي بين رفيقاتها في الحياة وزميلاتها في المهنة الأسمى، وقد أقمن حفلهم المبارك هذا، لوداعها بسبب التقاعد، لهذا ربما تظهر ضحكات سيدات الصورة، مشوبة بالمشاعر العاطفية، التي تعتري الإنسان، في مناسبات مؤثرة كهذه.
المعلمة والمربية التي أشاعت خلال سنوات عملها في التعليم، جواً من الألفة العائلية، معولة فيه على أن يثمر أيضاً كما تثمر العائلة التي رعتها، لم تكن الرحلة التي خاضتها للوصول إلى ما وصلت إليه، سهلة، ذاك أن ابن عمها وقع في غرامها، وتزوجا قبل نيلها الشهادة الثانوية، أما شرطها للقبول فهو متابعة دراستها، وعلى هذا الاتفاق، حافظ الرجل بأمانة، وقدم ما باستطاعته لبلوغ وفاء مرادها.
الزواج والحمل والولادة، شغلا بنت قرية “عوج” -حماه-عن دراستها، لكنها لم تقدر أن تنسها، أو تقلل من عزيمتها، وعندما صار طفلها الأول في سن تسمح لها، بتركه يلعب حولها بحرية، طلبت من ضياء أن يحضر لها نسخة كتب للثالث الثانوي الأدبي، وبدأت بالتحضير لامتحان الشهادة الثانوية، بعد أن صارت “أم علاء”.
في صور قديمة، تظهر وفاء مرتدية الزي الأزرق اللون، الذي كان يرتديه طلاب الجامعات في سورية، وهي داخل أروقة مبنى كلية التربية، لقد نجحت في الثانوية، والتحقت بالحياة الدراسية الجامعية، وهذا كان صعب التحقيق للغاية، خصوصا وأنها أنجبت طفلها الثاني، وصار العبء ثقيلاً على الأم الصغيرة، التي وجدت نفسها، تبتعد خطوة أيضاً عن حلمها، تحت ضغط واجباتها العائلية، ولتأخذ دراستها الجامعية وقتاً أطول مما قدرته لذلك، خصوصاً وأن البلاد تمر بحالة أمنية صعبة، وما جرى من أحداث حينها، بعد الإرهاب الذي روع به “الإخوان المسلمين” الناس في سورية ثمانينيات القرن الماضي.
الخشية الزائدة التي أظهرها أبو علاء على عائلته، جعلته يقترح إيقاف الذهاب إلى الجامعة، حتى تستقر الحال، وهو ما رفضته وفاء حينها، فالخشية لن تمنع وقوع المكتوب، ولا يجب أن تقف الحياة بسببها، لكن هذا المنطق الصادر عن الفتاة الجامعية، لم يكن هو نفسه الصادر عن وجدانها الأمومي، الذي طغى على كل ما دونه، والسنوات التي كان من المفترض أن تنهي فيها دراستها الجامعية، أصابها الركود مرة أخرى، لكن وفاء تُجهز لهذا الأمر حلاً، لن يكون تحقيقه يسيراً، لكنه يجب أن يكون مجدياً، فكان لزاماً عليها بذل جهد مضاعف، وهذا ما كان.
حققت المعلمة والمرشدة النفسية وفاء منصور، مسيرة تعليمية مهمة، فهي حاصلة على الشهادتين العلمية والأدبية في الثانوية العامة، وحاصلة على إجازة في علم النفس، وعلى دبلوم تأهيل تربوي، واتبعت عدة دورات مختصة في التأهيل التربوي، مكنتها من فهم الآلية التي لا بد أن تكون قائمة بين المدرسة والتلميذ، ليحققا النجاح معاً، ومارست مهامها الإنسانية أولاً والتربوية، كمرشدة نفسية، استطاعت أن تترك في قلب تلاميذها، أثرها النبيل، وفي وعيهم حكمتها التربوية، ولكن على يد ولسان أم.
تحكي وفاء عن الظلال الآمنة، التي فرشتها ألفة وطمأنينة قريتها “عوج” فوق قلقها، وعن الأثر الذي ينتقل بالدم لهذه الطبيعة، من جيل إلى جيل، فالصبر تعلمته فعلاً هنا، والحكمة اكتسبت ملامحها الأولى من محيطها، حيث الخالات والعمات اللواتي أحطنها بعنايتهن الخاصة، والحياة التي اختبرتها بشكل يومي ولحظي مكثف أيضاً، تستهلك الكثير من طاقتها، لكن دفء الأسرة ومتانة الصداقة ورقي الزمالة، يعيدها مشرقة كما لو أنها للتو دخلت صباحاً، من تحت قوس مدخل كلية التربية، نحو قاعات الدراسات فيها.
تمّام بركات