فرات خضّور تصارع الموت بوحدة إرادية في “هواجس نسائية”
نجوى صليبه
تلملم “سنا عبد الحميد” أغراضها وتجهّز الأوراق اللازمة لإنهاء عقد عملها في المجلة الشّهيرة بالعاصمة المجرية “بودابست”، وتدخل إلى مكتب مديرها ذي الأصول العربية فيحاول ثنيها عن قرارها، مذكّراً إيّاها بالوضع المؤسف الذي وصلت إليه بلدها في سنوات الحرب، لكنّها كانت واثقةً من أنّ هناك صورة مشوّهة تصل إلى كلّ العالم، فودّعته كما ودّعت أخاها الذي حاول عبثاً وللمرّة الأخيرة أن يحول دون سفرها..
تصل “سنا” إلى المنزل الذي ورثته عن والدها في مدينة دمشق التي تحبّ وتعشق، وترتّبه كما ترتّب ذكرياتها، وتعتاد على أصوات تفجيرات تتداخل بأصوات الأغاني التي تتحدّى الموت لدرجة لا يصدّق المرء أنّ الحرب مرّت على هذه المدينة، وتنشئ صفحة على وسيلة التّواصل الاجتماعي “فيسبوك” باسم مستعار لكي “تتجسس” على حبيبها السّابق “جمال حسين” الذي قطعت علاقتها فيه من دون أن توضّح له ظروفها، وتتواصل مع صديقها “أمجد” الجزائري الذي تعرّفت عليه في غربتها أيضاً خلال تغطيتها خبر حادث مروري أودى بحياة زوجته طبيبة الأطفال، وتستعيد لحظاتها الجميلة مع صديقتيها القديمتين “ساندرا” و”غالية”، وهناك في دمشق القديمة، يبدأ حديث الذّكريات وملاحظة التّغيّرات التي طرأت على كلّ منهنّ، وتروي “سنا” سبب طلاقها من “مؤيّد” الذي لم يكن على أخلاق والده أستاذ اللغة العربية المعروفة عنه في دمشق وبودابست، فقررت ألّا تكون ضحية من ضحاياها اللاتي يحضرهنّ إلى منزلهما من دون احترام لوجودها أو لمقام والده، وفي جلسات لاحقة تستمع لقصصهما وحياتهما الزّوجية وحياة أطفالهما وأسباب سعادتهما وتعاستهما، والأمر الأكثر أهمية من كلّ ذلك هو البوح الصّريح لكلّ منهما، كيف كانتا في صغرهما وكيف صارتا في كبرهما، ماذا تمنين وإلى أين وصلتا، وموقف زوجيهما من تغيّراتهما التي لم يكونوا على استعداد لها، وأمنياتهما من الحياة القادمة.
وتمضي أيّامها وهي تعاني الألم والوجع، وحيدة بإرادتها ورغبتها، لم تشأ أن تخبر صديقتيها ولا “جمال” الذي تراقبه وتقرأ كلماته ومنشوراته بضعف الحبّ وقوّة الإرادة، وبناءً على طلب صديق شقيقها “نادر” الدّكتور “زياد” تجري تحاليل طبية جديدة تؤكّد مرّة ثانية إصابتها بسرطان الكبد وانتقاله إلى العظام وانتشاره بشكل غير قابل للعلاج، ولحين اتّخاذ قرار العلاج الكيميائي تعيش مع ذاكرة جميلة وحزينة وأزهار تملأ الشّرفة حياةً، إلى أن يأتي اليوم وتسمع صوت تفجير عبوة ناسفة بالقرب من منزلها، فتطأطئ مهزومة وتردّ عليه بمسح كلّ الصّور التي تحتفظ بها في آلة التّصوير، وتسأل نفسها: “أيّ سعادة كنت ستحظين بها وأنت تتجولين بهذه الكاميرا والدّفتر المعلّق حول عنقك كالعادة لسبق صحفي تتباهين بامتياز نشاطك فيه؟ كيف كنت ستتجولين بين قصص السّوريين من نازحين ومفجوعين وجياع ويتامى ومصدومين؟ أيّ سبق صحفي هذا الذي ستحزمين لأجله عتادك؟ أيّ سعادة في توثيق رحلات الموت فيق زمن الموت؟”.. توقف سيل أسئلتها وتقرر إهداء هذه الآلة إلى “رند” ابنة صديقتها “ساندرا” فقد أخبرتها بحبّها للتّصوير.
وتمضي الأيّام، وتزداد صدمة “سنا” بما تخلّفه الحرب من أزمات ومشكلات وفقر شديد وغنى فاحش، تقول: “كما أنّ تشرّداً من نوع آخر متجسّداً بأجيال فتية تهيم على وجوهها في الطّرقات، ترى عيونهم فارغة على لا شيء، يفترشون الأرصفة والحدائق العامّة.. لا يعنيهم الوقت، فلا شيء بانتظارهم كما يقول لسان حالهم، كلّ شيء مباح بحجّة الوضع النّفسي السّيئ والوضع المادّي المتردّي”.
وتستسلم مرّة أخرى لأوامر الطّبيب وأثناء إجرائها تحليلاً جديداً، يغمى عليها وتستيقظ لتجد نفسها في عيادته وبيدها مصل يمدّ جسمها بالفيتامينات والشّوارد، وللحظات تفكّر في الذّنب الذي اقترفته حتى تعاقبها الحياة هكذا، تقول: “تلاحقني أسئلة لا أدري من يسألها؟ مذ كنت طفلةً صغيرةً وحتّى هذه اللحظة وكأنّني أحاسب عن كلّ خطأ اقترفته في حياتي، “تراه ملك الموت يحوم حولي؟.. تلك النّظرة التي احتقرت فيها شخصاً أساء لي مرّة، ماذا لو كنت تجاوزته؟ وذاك المتسوّل الذي صفعت الباب بوجهه في لحظة مزاج سيء، ما ذنبه بمزاجي؟، وعلى الرّغم من وضعها التّعيس صحيّاً ومعنوياً ونفسياً تصرّ على إخفاء مرضها عن صديقتيها وتودّعهما بحجة السّفر، وقبيل انطلاق مسيرة العلاج الكيميائي يصل “نادر” إلى دمشق ويلازمها بصدق وحبّ لا تملك أن تصدّقه في البداية بحكم سنوات الغياب الطّويلة، وبحكم أنّها متأكدة من أنّه يريد المنزل فقط، وهذا ما تنفذه بإرادتها بعيد تأمين قبر لها بجوار قبل والدها وبحسب قولها فإنّ تكلفة قبر للميت تفوق تكلفة غرفة للمعيشة!.
وهناك في غرفتها بالمستشفى وبين الوهم والحقيقة، يتراءى لها “أمجد” و”ساندرا” و”غالية”، لكن وحدها نظرات “جمال” كانت تمنحها الاطمئنان، تقول: “عيناه وحدهما أدخلتاني دوامة الشّك.. ربّما أحيا”.. نهاية مفتوحة أرادتها فرات ياسين خضور لروايتها “هواجس نسائية” الصّادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب ـ سلسلة الرّواية 2023.
لا تتناول خضور في هذه الرّواية قضايا تعانيها النّساء، من قتل للطّموح وتقييد للتّفكير وتحديد للمهمات فحسب، بل تتعدّاها إلى الهم المجتمعي والمشكلات والأزمات التي خلّفتها الحرب، ومن ضمنها ما يعانيه الصّحفيون في الظّروف العادية فكيف بهم في فترة الحرب، فهي صحفية مجدّة وحبيبها “جمال” كذلك لكنّ جدّه جلب له متعاب كثيرة، إذ كتب مقالاً جريئاً قاسياً كلّفه المنفى، فقد شوّه بعض أصحاب النّفوذ سمعته، وبعد أيّام عدّة تعرّض لحادث سير يعتقد جازماً أنّه متعمّد، تقول الرّاوية على لسان جمال: “لم ألق إطراءً واحداً خلال سنوات من العمل، ولم يسمعني أحد عندما كنت أصرخ بما يحاك لنا من مؤامرة وما يتمّ التّخطيط له، لكنّهم تهافتوا عليّ كالذّباب عندما سلّطت الضّوء على قذارة أفعالهم.. أليست الكلمة أقوى من السّلاح، ألم تكن السّبب في إشعال الفتن والحروب، أنا هنا على كرسي متحرّك بسبب ورقة تحمل بعض ادّعاءات كاذبة”.