يحفرون قبراً واحداً..لهم!
-1-
قال لي: إنه يحفرون في سلوان، جنوب القدس!
قلتُ: إنهم يحفرون قبرهم منذ عام 1948، عفواً يحفرون الأرض، وينقّبون، ويبحثون، ويزوّرون، ويكذبون، ولكن لا يجدون ما يسرّهم، يحفرون، وفي كلّ الأمكنة الفلسطينية، ولا سيما في القدس/ بيتنا العزيز، وفي الضفة الفلسطينية، شقيقة النهر المقدّس، شقيقة الأشجار الطروب بذؤابتها التي تحتضن الغيوم بهدوئها الرزين، فيجدون ما يغمّهم، يجدون النقود التي كان أجدادنا الفلسطينيون قد صكّوها، كيما تصير هي المتداول في الأسواق، ويجدون أجمل أنواع الفخّار المقسّى بالنار، والملوّن بالزرقة الشاهقة بالجمال، ويجدون الزجاج الذي صنعه الأجداد بيدين اثنتين، واحدة جامعة للرمال البارقة المشوية بحرارة الشمس، وثانية تحرك موقدة النار حتى يسيل الزجاج مثل عسل أكواز التين، ثم يتشكل حتى يصير أباريق، وكاسات وصحائف لم يعرفها العالم إلا عندما شاخ وتقدّم في العمر، ويجدون كتابات تتحدث عن أعمالنا منقوشة على الحجارة، وألواحاً خشبية بدت، لولا الحياء، أجمل من أقراص العسل، ويجدون أطواق الخرز، والمكاحل، وأواني الزجاج والفضة والذهب، والمراود والمرايا والقلائد، وقد صاغتها أيدي الأجداد المهرة. إنهم يحفرون تحت الأرض السابعة، من أجل أن يعودوا برضا كذوب، أو أمل لم يتخلّق بعد، أو طيف سعادة ،حتى لو كان واهماً، ولكنهم لا يجدون إلا ما يغمّهم، إنهم يعودون، من الحفر المتواصل منذ عام 1948 وحتى هذه الساعة، مهزومين لا ترافقهم في ذهابهم وإيابهم إلا صلصلة أجراس الخيبة التي تقول لهم مثلما تقول طيور الوقواق: الخديعة/ الخديعة!
-2-
بلى، إنهم يجانبون المنطق ويخالفونه، فهم وبوضوح تاريخي جلي، ما كانوا هنا في هذه البلاد الفلسطينية، بلاد الله الصغيرة الزاهرة بالعمران، مقيمين، بل كانوا مارين بها طمعاً بخيراتها، وقد ملأوا الأكياس المعلقة في رقابهم المنحنية (لثقل ما فيها) من هنا، من بلادنا، مرّات ومرّات، ولكنهم ما بنوا شيئاً فوق الأرض، وما صنعوا شيئاً يروم الخلود أو البقاء في البيوت التي سكنوها، لأنّ حياتهم قامت على ثقافة التجوال من مكان إلى مكان، لقد كانوا يعرفون أين يقرّ الماء، وأين تعرّش الخضرة، وأين تزدهر القرى، وأين يتربى الرغد، فجاؤوا إليها لا لكي يعيشوا فيها ويبنون ويبدعون، وإنما لكي يمتصّوا خيراتها، خيرات الأرض، وخيرات الناس، ولهذا ليس غريباً أن تخلو الثقافة العالمية من كتاب، غير ديني، يتحدّث عنهم! بل كل الثقافة الشفوية التي تقف عندهم هي ثقافة تؤكّد جولانهم، وعبورهم، وعدم مكّثهم في مكان واحد، أو في مكان محدّد لأنهم كانوا يتطيّرون من السكن في مكان واحد مرتين، ولأنهم كانوا أهل شك وريبة في كلّ شيء.. في المكان، والحديث، والناس، ولهذا هم أهل خوفٍ، وحذرٍ، وتحسّبٍ من سؤال الآخرين لهم: من أنتم!
-3-
أجل، السؤال جوهري هنا: لماذا لم يتركوا في القول، ولا في الكتابة، ولا في الأرض، ولا في العمران، ولا في الأنساب، ولا في الفنون، شيئاً يتحدّث عنهم؟! ولماذا مرجعيتهم كلّها، منذ الشفوية وحتى التدوين، هي مرجعية دينية، غير قارّة ولا صافية بعدما أتى عليها النخل فلم يبقِ منها صفوةً، أو جوهرةً، أو كينونةً، حتى لو كانت كانت صغيرة! لم يصنعوا حبل ليف، لأنهم لم يزرعوا شجر الليف، ولم يتذوّقوا حلاوة قرون الخرّوب لأنهم لم يزرعوا شجر الخروب، ولم يفلحوا أرضاً، لأنّ الأرض شقيقة الصبر، وشقيقة المواسم، وهم لا صبر لهم ولا مواسم، وهم لم يسيّجوا داراً بسياج علّيق ليروا زهر العليق البرّاق، ويتذوقوا طعوم حبّات العلّيق الآسرة، لأنهم لم يبنوا داراً في الأصل؛ كانت لخيام، وعرائش القصب، سترتهم وكفى!!
-4-
ها هم، وحتى هذه الساعة، يستقدمون من يعرفون من علماء الجيولوجيا، وينفقون عليهم الأموال من أجل أن يجدوا لُقيا تقول عنهم شيئاً، أو لُقيا تشير إليهم، ولكن لا أحد من هؤلاء العلماء وجد شيئاً خاصاً بهم، لأنهم هم ، وفي صلب عقيدتهم، لا يؤثثون الأرض بما تستحق، ولا البيوت بما يليق بها، ولا الدنيا بضروراتها.. ولهذا لا قناعات جديدة مستلّة من قناعات قديمة، والحفر في طبقات الأرض، وفي كلّ الأماكن الفلسطينية، يقول لهم: أنتم لستم أهل عمران! والزراعة والصناعة والكتب هي آيات العمران! أنتم كنتم عالة، وعابرين، وجامعي أموال في جميع أنحاء الدنيا من الهند والصين، إلى بلاد البرد والثلج، ولم تتركوا فكرة أو صوتاً أو أثراً، في أيّ مكان منها، وليست فلسطين سوى بلاد غنية من تلك البلاد التي مررتم بها مرور العابرين، وليس لكم فيها فكرة أو صوت أو أثر!
لهذا نقول لكم جهراً: انتهوا، لأنّ حفر القبر أُنجز، والخاتمة حلّت!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com