مجلة البعث الأسبوعية

النيجر تفتح الطريق في إفريقيا للتخلّص من إرث الاستعمار والأغلال المتبقية

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

سلط الانقلاب الذي وقع في 26 تموز الماضي في دولة النيجر الواقعة في غرب إفريقيا، والذي يهدد بتقويض الوجود العسكري الفرنسي والأمريكي في المنطقة، الضوء على الاستغلال التاريخي والممارسات المستمرة للـ “فرانوفريكية”، وهو المصطلح المستخدم لوصف الاستغلال المستمر من قبل الإمبراطورية الفرنسية السابقة في إفريقيا.

تعتمد فرنسا بشكل كبير على الطاقة النووية، حيث  68 في المائة من طاقتها هي من المحطات النووية. وتحصل على 19 بالمائة من اليورانيوم المطلوب لتشغيل هذه المصانع من النيجر. وعلى الرغم من هذه المساهمة الكبيرة في تلبية احتياجات فرنسا من الطاقة، إلا أن 14.3 بالمائة فقط من النيجيريين لديهم إمكانية الوصول إلى شبكة الكهرباء، إن مثل هذا التناقض الصارخ يسلط الضوء على التفاوتات والاستغلال المستمر من قبل القوى الأجنبية الغازية في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

إرث فرانوفريكية

تشتهر الـ “فرانوفريكية” بأنظمتها الاستغلالية المصممة للاستفادة من الموارد الأفريقية عن طريق استخدام الضغط ورأس المال والقوة المباشرة في كثير من الأحيان للحفاظ على السيطرة على إمبراطوريتها السابقة. ونتيجة لذلك، لا تزال العديد من الدول الأفريقية، بما فيها النيجر، تواجه الفقر وضعف التنمية.

تحدث زعيم بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، مؤخراً في القمة الروسية الإفريقية التي جرت في سان بطرسبرغ، واستنكر حقيقة أن إفريقيا غنية بالموارد، لكن شعبها فقير، وانتقد القادة الأفارقة الذين يسعون للحصول على مساعدات من الغرب بأنهم يديمون التبعية والفقر.  كما وصف ما يُفرض على إفريقيا بأنه شكل من أشكال العبودية، قائلاً: “فيما يخص بوركينا فاسو اليوم، فقد واجهنا لأكثر من ثماني سنوات أكثر أشكال الاستعمار الإمبريالي الجديد همجية وعنفاً، ولا تزال العبودية تفرض نفسها علينا. لقد علمنا أسلافنا شياً واحداً، وهو العبد الذي لا يستطيع تحمل ثورته لا يستحق الشفقة. نحن لا نشعر بالأسف على أنفسنا، ولا نطلب من أي شخص أن يشعر بالأسف تجاهنا”.

إن عدم قدرة فرنسا على تبرير وجودها في إفريقيا بسردية متماسكة يزيد الموقف تعقيداً، إذ لا يمكن لباريس أن تعترف صراحة بجشعها، أو تتظاهر بـ “مهمة حضارية”، أو تعترف بأية مسؤولية عن جرائمها السابقة، وهذا الافتقار إلى الهدف يضعف القوة الفرنسية في القارة، مما يؤدي إلى العنف والفقر في أعقابه.

لقد ترك دافع سعي غرب إفريقيا لمزيد من الاستقلال الأطلسيين قلقين بشأن الحديث في هذا الأمر أمام القوى الأوروبية الآسيوية مثل روسيا والصين لزيادة نفوذها في إفريقيا، حيث يعكس رد فعل الغرب عدم احترام سيادة الدول الأفريقية، لأنه ينظر إلى القارة على أنها مجرد مسرح للحفاظ على الهيمنة العالمية.

أعرب الأطلسيون منذ اندلاع حرب أوكرانيا في أوائل عام 2022، عن قلقهم بشأن عدم رغبة دول الجنوب العالمي في دعم سياسات الغرب المعادية لروسيا، وهو اتجاه زاد من تضخيمه التحول إلى التعددية القطبية في كل مكان. لقد فتح ضعف الهيمنة الغربية هذا الطريق أمام العديد من الدول لاستكشاف خياراتها الجيوسياسية وتنويع اقتصاداتها بشغف.

سلط تقرير من مؤتمر” ميونيخ للأمن” الذي عقد في شباط الماضي الضوء على هذا الانقسام الحقيقي مع الغرب، وجاء في التقرير: “لقد فقدت العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الثقة في شرعية وعدالة النظام الدولي الذي لم يمنحها صوتاً مناسباً في الشؤون العالمية، ولم يعالج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ، وبالنسبة للعديد من الدول، فإن هذه الإخفاقات مرتبطة بشدة بالغرب، حيث وجدوا أن النظام الذي يقوده الغرب اتسم بالهيمنة ما بعد الاستعمار، وازدواجية المعايير، وإهمال وتجاهل مخاوف الدول النامية”.

ابتزاز ونهب بالفرنك الإفريقي

شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تحولاً كبيراً في ديناميكيات القوة العالمية، وسعت القوى المنتصرة إلى إقامة نظام عالمي جديد يحافظ على السلام ويعزز التوازن الاقتصادي. في سياق المستعمرات الأفريقية، حيث لعبت القوات الاستعمارية دوراً رئيسياً في انتصار الحلفاء، كانت القوى المنتصرة، بما في ذلك فرنسا، تهدف إلى الاحتفاظ بالسيطرة الاقتصادية والاستفادة من مستعمراتها السابقة حتى مع تحرك العالم نحو إنهاء الاستعمار. وشمل ذلك إنشاء أنظمة عملات جديدة، حيث أنشأ الزعيم الفرنسي شارل ديغول عملتين تعرفان معاً باسم الفرنك الأفريقي في عام 1945 للمستعمرات السابقة في المنطقة الغربية والوسطى، ومع تنامي الضغط من أجل الاستقلال السياسي في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، نظمت فرنسا استفتاءات في مستعمراتها الأفريقية للتصويت على قبول دستور صاغه الفرنسيون.

عارضت غينيا، بقيادة النقابي السابق سيكو توري، قبول الدستور الفرنسي، وصوتت بأغلبية ساحقة ضده، وفي رد فعل غاضب، سحبت حكومة ديغول جميع المسؤولين الفرنسيين من غينيا، واتخذت إجراءات لتخريب البنية التحتية وموارد البلاد. كان الهدف من وراء الإجراءات القاسية التي اتخذتها باريس ضد غينيا هي أن تكون مثالاً لما يمكن أن يحدث لأي مستعمرة فرنسية سابقة قاومت أجندة فرنسا.

أظهرت فرنسا على مر السنين نمطاً من التدخل العسكري – أكثر من 50 مرة منذ عام 1960 – في البلدان الأفريقية لتأمين الحكومات التي تظل متوافقة مع المصالح الاقتصادية الفرنسية، ولا سيما فيما يتعلق بالاستخدام المستمر للفرنك الأفريقي. كان النظام الذي يعمل من خلاله الفرنك الأفريقي تاريخياً واحداً من أسعار الصرف الثابتة، حيث تتمتع العملة بقابلية غير محدودة للتحويل، ولكنها مرتبطة بشكل دائم بالعملة الفرنسية، سابقاً الفرنك  ومن ثم اليورو.

العملة الأفريقية تحت السيطرة والوصاية الفرنسية

هذا يعني أن البلدان الأفريقية لا يمكنها التأثير على قيمة عملتها الخاصة، والفرق في القيمة يجعلها قادرة على شراء منتجات أفريقية رخيصة بشكل مصطنع، بينما يتمكن الأفارقة من شراء سلع أقل بالمال الذي يتبادلونه. والأسوأ من ذلك، كان لدى فرنسا متطلبات لتخزين الاحتياطيات الأجنبية المملوكة لمستعمراتها السابقة، وبالتالي الربح منها، على الرغم من إلغاء شرط الاحتفاظ بنسبة 50 في المائة من احتياطياتها من العملات الأجنبية في بنك يديره الفرنسيون بالنسبة للمنطقة الغربية في عام 2019.

بموجب هذا المخطط، تلقت الدول الأفريقية مبلغاً رمزياً من الفائدة، لكن البنك استفاد من إقراض رأس المال بمعدلات أعلى وتحقيق أرباح ضخمة من الموارد والعمالة الأفريقية. وذلك على الرغم من حقيقة أن العديد من البلدان في أفريقيا الناطقة بالفرنسية هم من كبار المصدرين للذهب، وبالتالي لديهم العديد من الخيارات لتخزين الثروة لدعم العملة في البنوك المركزية البديلة.

على الرغم من أن نظام الفرنك الأفريقي قد قدم بعض الفوائد من حيث الاستقرار ومنع التضخم المفرط على غرار زيمبابوي، إلا أنه تعرض أيضاً للتدقيق لفرض شروطاً على الدول الأفريقية والتي لا تفرض على الدول الأكثر قوة. وقد أدى افتقار الدول الإفريقية إلى السيطرة على عملتها إلى إعاقة النمو الاقتصادي، وجعل هذه البلدان عرضة للصدمات الاقتصادية العالمية. ونتيجة لذلك اختارت دول شمال إفريقيا مثل تونس والجزائر والمغرب ترك فرنك الاتحاد المالي الأفريقي بعد حصولها على الاستقلال، وشهدت ازدهاراً أعلى نسبياً. وبالمثل، فإن نجاح  جمهورية بوتسوانا مع عملتها الوطنية يدل على أن الإدارة السليمة يمكن أن تؤدي إلى ديمقراطية مستقرة ونمو اقتصادي، حتى بالنسبة للدول الأقل تقدماً.

 حقوق وامتيازات حصرية

كان نظام الفرنك الإفريقي هو المكافئ الجيوسياسي لأب واحد يصر على أنه يدير مدخراته بينما يتركها بعيداً عن إرادته. هناك فوائد من وجود منطقة تجارة وعملات، مثل اتحاد
” المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” الحالي الذي يغطي الجزء الغربي من القارة، ولكن حسب التصميم في ظل نظام الفرنك الإفريقي، كان الاستقلال وهماً دمرت فرنسا من خلاله هذه البلدان.

كانت فرنسا تعتمد على إفريقيا بسبب وضعها كقوة عالمية لأكثر من قرن، وكان من بين الامتيازات الأخرى التي حصلت عليها فرنسا لنفسها في معاهدات ما بعد الاستعمار، الحق الحصري في بيع المعدات العسكرية للمستعمرات السابقة، وتتمتع بالحق الأول في أي موارد طبيعية يتم اكتشافها. وبذلك تستفيد باريس بشكل كبير من هذه الامتيازات، وكمثال على ذلك، يتم الحصول على 36.4 في المائة من الغاز الفرنسي من القارة الأفريقية. علاوة على ذلك، فإن شبكة واسعة من المصالح التجارية الفرنسية، والتي تشمل كبرى الشركات متعددة الجنسيات تهيمن على صناعات مثل الطاقة والاتصالات والنقل في العديد من البلدان الأفريقية . تدعم الحكومة الفرنسية أيضاً الشركات الفرنسية في إفريقيا بعدة طرق، بما في ذلك من خلال شركة عامة ضخمة تسمى “كوفاس” والتي تضمن الصادرات الفرنسية إلى تلك الأسواق التي تعتبرها غير متطورة.

نحو الاستقلال والاعتماد على الذات

ساهم هذا الاعتماد الاقتصادي في إدامة نظام تظل فيه الدول الأفريقية ضعيفة وتعتمد على صادرات الموارد، مما يعود بالنفع على الشركات والمصالح الفرنسية في المقام الأول . بالإضافة إلى ذلك، فإن الدول الأفريقية ملزمة بالتحالف مع فرنسا في أي صراع كبير، مما يزيد من تآكل سيادتها الوطنية. إضافة إلى أن القارة الأفريقية تعاني من العديد من الأمراض، ولكن ربما يكون أكثرها إلحاحاً وشناعة هو الافتقار إلى السيادة والوصول إلى رأس المال. في غضون ذلك، نشأ الكثير من ازدهار أوروبا من نهب الجنوب العالمي لعدة قرون.

إن حالة بروكسل، التي بُنيت على الثروة المستمدة من الاستغلال الوحشي للكونغو في عهد الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، هي تذكير صارخ بالتأثير عميق الجذور للاستعمار.  عندما تم اكتشاف جرائم الملك ضد الإنسانية، اضطر في النهاية إلى توريث غالبية ثروته للدولة البلجيكية بعد وفاته. ونظراً لعدم رغبته في القيام بذلك، شرع في سلسلة هائلة من الأعمال العامة لإنفاق مكاسبه غير المشروعة، وأحدث بروكسل الحديثة. الآن يلتقي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي هناك ويلقيان محاضرات خادعة ومضللة حول حقوق الإنسان العالمية بينما تحيط بهما أرباح بعض أكثر حالات الاضطهاد وحشية في تاريخ البشرية.

يكمن الطريق إلى حل مشاكل إفريقيا في القادة التحوليين الذين يمكنهم التخلص من إرث الاستعمار والأغلال المتبقية وتمكين القارة من شق طريق حقيقي محلي نحو الاستقلال والاعتماد على الذات.