واشنطن تتابع تحريك أدواتها المرتهنة وإذكاء التوترات ضدّ بكين
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
بات من المعلوم أنه منذ اندلاع الحرب الأوكرانية بفعل العقلية الأمريكية القائمة على إشعال الحروب بالوكالة ضدّ أي دولة أو محور مناوئ لسياساتها الإمبريالية، أن الحرب الباردة عادت واندلعت من جديد رغبةً من الإدارة الأمريكية في خلق واقع جيوسياسي متوتر بهدف تطويق تقدّم القوى الصاعدة في العالم، وعلى رأسها الصين التي تعتبرها أمريكا صراحةً “الخطر الأول” المهدد لتفوقها وهيمنتها، ناهيك عن خوفها من روسيا وكوريا الديمقراطية الشعبية وإيران ودول أمريكا اللاتينية وغيرها من الدول التي تسارع إلى توسيع التعاون فيما بينها لتحدي السياسات البائدة لإدارة واشنطن، ونهجها النيولبرالي المدمّر للشعوب والمعرقل للتنمية المستدامة.
أمريكا الآن في حيرة من أمرها فخطواتها جميعها حتى اللحظة تبوء بالفشل لأنها ببساطة لن تحاكي المقاربة الصينية في تنمية الشعوب وبناء علاقات مفيدة معها، دون ابتزاز أو تدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وهذه الحرب الباردة الأمريكية سبقتها خطوات تعود لعهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي بدأ يلمّح لحرب اتصالات ضدّ الصين وضدّ عملاق الاتصالات الصيني “هواوي”، من خلال إطلاق اتهامات التجسس، حيث تعتبر الإدارة الأمريكية أن بناء منظومات الاتصالات وبناها التحتية من الصين في عدد كبير من البلدان هو بمثابة سيطرة على تلك البلدان وأخطر من الحروب، ورغم ذلك تابعت الصين التعاون مع الولايات المتحدة في محاولة للتهدئة، لكن تلك الإدارة زادت التوترات، وخاصةً في حقبة الرئيس الحالي جو بايدن، بل لوحت واشنطن بحروب عسكرية ودبلوماسية وتجارية وإيديولوجية وتكنولوجية ضدّ بكين لاحتلال الصدارة في العالم مهما كلّف الثمن.
وما يزيد القلق الأمريكي، مدى القوة الصينية في المنطقة الأوراسية وخاصةً عبر طريق الحرير المتضمن سككاً وطرقاً وموانئ بحرية تموّل عبرها بكين عدداً من دول المنطقة لبنائها، ما سيعزز تعاون تلك الدول تجارياً واقتصادياً، ويحيّد أمريكا وحلفائها عن تلك المنطقة ويطرد نفوذهم الضعيف منها نهائياً، فيما يكمل هذا الطريق خطوات الصين وحلفائها لبناء نظام عالمي جديد بالكامل تسوده العلاقات المتعددة. إن واشنطن تدّعي في هذا الصدد أن طريق الحرير سيكون مشروعاً مزدوج الغايات، حيث يمكن أن تستبدل الصين الغايات التجارية بأخرى عسكرية لمدّ نفوذها وبناء قواعدها العسكرية في العالم، وخاصةً مع التفوق الصيني في المجال العسكري البحري، إذ تخصص بكين نصف إنفاقها العسكري لتنمية أسطولها، والذي أصبح ينافس تكنولوجياً وعسكرياً الأسطول البحري الأمريكي.
وعلى مقلب جنوب شرق آسيا، نلحظ أيضاً خطا التصعيد الأمريكي عبر استخدام قوى الإرهاب للصين ومصالحا الاقتصادية، ومؤخراً استهدف تنظيم ما يسمّى “جيش تحرير بلوشسان” الإرهابي المصالح الصينية بأعماله الإرهابية المتكررة ضدّها، إذ استهدف قافلة مهندسين صينيين متجهة نحو ميناء الكواد الذي تموّل بناؤه الصين في إطار تعزيز خطوات التعاون التجاري مع باكستان وتعزيز التنمية وتأمين الموارد وفرص العمل للشعب الباكستاني، وبما يُعزّز أيضاً من مكانة باكستان في منطقة جنوب شرق آسيا، وتمكين الصين من تأمين إمدادات النفط دون المرور بتايوان، إضافةً لاستخدام الميناء في المبادلات التجارية الأخرى. ويتزامن هذا العمل الإرهابي مع تطوّر التعاون الصيني مع باكستان وتخطيه المرحلة الأولى نحو الثانية في مشروع خط التجارة الصينية الباكستانية، والمتضمّن بناء سبع مدن صناعية على الطريق التجاري الواصل من الصين إلى ميناء الكواد، ناهيك عن انضمام روسيا إلى مشروع بناء هذا الميناء. وفي الوقت الذي تحتاج فيه هذه البلدان الأمان في المنطقة تسعى حكومة واشنطن لتحريك القوى التكفيرية والانفصالية لخلق الفوضى وعرقلة خطا التنمية، وما يدلّ على ضلوعها في هذه الهجمات هو معاداتها لمشروع خط التجارة الصينية الباكستانية، ولمشروع الميناء، ولمبادرة حزام واحد، وللتقارب الصيني الباكستاني بالمجمل، وأي نفوذ صيني في جنوب شرق آسيا.
وفي شبه الجزيرة الكورية، نرى أيضاً خطوات هدّامة في المنطقة من الإدارة الأمريكية الساعية إلى تهييج أعوانها، ضدّ الصين وحلفائها، حيث تتهم كوريا الديمقراطية الشعبية وإيران والصين بتزويد روسيا بالمسيّرات والطائرات دون طيار لاستخدامها ضدّ أوكرانيا، كما تسعى تلك الإدارة إلى مدّ مظلتها النووية في المنطقة، إذ تعمل على تزويد سيؤول ببرنامج نووي، كما وضعت غواصة نووية تابعة لها في موانئ كوريا الجنوبية، ما يعني أنها قرّبت مسافة أي استخدام محتمل لأسلحتها النووية ضدّ الصين أو كوريا الديمقراطية اللتان تملكان قوة ردع نووية كبيرة وصواريخ بالستية قادرة على استهداف البرّ الأمريكي وخلق كارثة نووية فيه، كما تنشط أمريكا حضورها العسكري ومناوراتها وتدريباتها العسكرية مع حلفائها “كوريا الجنوبية اليابان تايوان”، والتي تحاكي هجمات على كوريا الديمقراطية والصين بعد هدوء ساد المنطقة منذ عام 2017.
إن هذه الأعمال الاستفزازية تخفّض سقف الثقة وتعدم المسار الدبلوماسي للتفاوض بين الطرفين وترفع مخاطر التطور نحو صدام عسكري نظراً لفقدان عنصر حسن النوايا في كامل المنطقة، في وقت أفرغت واشنطن حقيبتها من أي ضمانات لبكين وبيونغ يانغ، بل على العكس يُخطط بايدن لعقد قمة مع زعماء طوكيو وسيؤول يتوقّع منها وضع هيكلية جديدة للمنطقة، وغالباً ستكون تصعيدية ضدّ الصين وحلفائها.
تمتلك الصين القناعة التامة بالتفوّق على أمريكا في أي صراع قد تشنّه الأخيرة على أي صعيد بما فيه العسكري، وتمضي مع حلفائها وكل القوى الصاعدة بخطاً ثابتة لمواصلة تعاونهم، واستقطاب المزيد من الدول مهما انتهجت الإدارة الأمريكية من سياسات الترغيب والترهيب وفرض العقوبات والتلويح بالصراعات.