مصطلح “عسكرة” القطب الشمالي يتحول إلى أمر واقع
البعث الأسبوعية- إبراهيم ياسين مرهج
تتجه أنظار الدول الكبرى إلى القطب الشمالي بموارده الطبيعية وثرواته الباطنية بعد عقود كان فيها خارج سياق المنافسة المباشرة بين تلك الدول، ولكن الاحتباس الحراري وذوبان الجبال الجليدية فتح شهية القوى المتنافسة ودفعها إلى محاولة إثبات أحقيتها بالسيطرة على هذه الموارد، الأمر الذي يمنح من يسيطر عليها نفوذاً وهيمنة كبيرين وخصوصاً مع توقعات باتجاه الموارد الطبيعية في المناطق الأخرى من العالم إلى النضوب.
وتحتوي الأراضي الجليدية في القطب الشمالي على 26% من احتياطي النفط والغاز غير المكتشف في العالم، ويُقدَّر بنحو 90 مليار برميل نفط، و50 تريليون م3 غازاً طبيعياً، ونحو 30 تريليون دولار قيمة المعادن النادرة بها، ستعزز سرعة ذوبان الجليد الفرص لاستخراج هذه الموارد وتطوير المنطقة اقتصادياً، حيث ترجِّح الدراسات البيئية أنه بحلول عام 2030 سيذوب الجليد بالكامل خلال فصل الصيف نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بالقطب الشمالي، ما سيُوجِد مخزوناً كبيراً من المياه العذبة.
ويتحول مصطلح “عسكرة” القطب الشمالي إلى أمر واقع، فقد أعلنت واشنطن عن إستراتيجيتها في المنطقة في عام 2021 باسم “استعادة الهيمنة في القطب الشمالي”، والتي تشمل عدداً من الأهداف الرئيسية، على غرار إنشاء مقر تشغيلي متعدد المجالات، مع ألوية قتالية مدرَّبة ومجهَّزة، وتحسين الاستعداد في العتاد، لتنفيذ عمليات موسَّعة بالمنطقة، وتحسين التدريب الفردي والجماعي، وتحسين نوعية الحياة للجنود والمدنيين والعائلات المقيمين في المنطقة.
كذلك سارعت الدول الغربية الحليفة لواشنطن إلى استغلال انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية من أجل تطويق مساعي موسكو وبكين للتعاون في المنطقة القطبية الشمالية، وجاء انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” في هذا السياق، على أن يكتمل الطوق الغربي مع انضمام السويد المتوقعة للحلف، كما أطلق الحلف مناورات عسكرية وتدريبات مشتركة لقوات من أمريكا وكندا وإيطالية وأسترالية في قاعدة “فورت وينرايت” القطبية الأمريكية في ولاية ألاسكا، بينما استغلت بريطانيا القواعد الأطلسية في النرويج لتؤسس قاعدتها الخاصة بالقرب من الحدود الروسية.
كذلك أشار الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إلى أن الحلف يمتلك بالفعل بنية تحتية متطورة في القطب الشمالي، مؤكداً في الوقت نفسه أن الحلف يتخذ المزيد من الإجراءات العملية لبناء مرافق البنية التحتية وتوسيع الوجود العسكري للقوات المسلحة المشتركة للحلف، مشيراً إلى انتقال الكتلة إلى إجراءات عملية لتشكيل أدوات القوة العسكرية لاحتواء روسيا الاتحادية في القطب الشمالي.
بالمقابل فإن التحركات العسكرية للناتو في القطب الشمالي كانت مرصودة من موسكو، وأعلن قائد الأسطول الشمالي الروسي، ألكسندر مويسيف، أن الولايات المتحدة ودول الناتو كثفت أنشطتها العسكرية بحجة تزايد احتمالات الصراع في المنطقة على خلفية الاتجاهات السلبية في مجال الاستقرار الاستراتيجي والأمن، مشيراً إلى اتخاذ خطوات عملية من أجل عسكرة منطقة القطب الشمالي.
وسارعت روسيا في منتصف حزيران 2022 للإعلان عن بدء تنفيذ مشروع “سنيجينكا” للطاقة المتجددة في القطب الشمالي بمفردها، وذلك بعد تعليق عضويتها في مجلس “القطب الشمالي” بطلب أمريكي، باعتبار ذلك جزءاً من العقوبات ضدها، وأكدت موسكو أن قرارات المجلس ستصبح غير شرعية دون مشاركتها، وسبق لها أن حذرت واشنطن من “خطر صدام غير مقصود مع الناتو في القطب الشمالي”.
وتأسَّس مجلس القطب الشمالي عام 1996 بعضوية الدول المُطلِّة على المحيط الشمالي (روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، وأيسلندا، والنرويج، والسويد) بهدف التعاون في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة للمناطق القطبية، كما يشارك فيه منظمات تمثل السكان الأصليين للمنطقة، و13 دولة بصفة مراقب منها الصين، علماً أن اختصاصاته لا تشمل أي بند أمني أو عسكري.
ويُعَد القطب الشمالي جزءاً من التاريخ والثقافة الروسية، لأنها أول من أرسلت بعثات استكشافية إليه، كما أنها تمتلك نصف مساحته وعدد سكانه، بالإضافة إلى امتلاكها آليات وبنية تحتية كبيرة فيه حيث تتواجد فيه 7 قواعد عسكرية تابعة لها في القطب، كما أنها تمتلك 40 كاسحة جليدية، و34 غواصة بحرية، وأسطولاً كاملاً، بالإضافة إلى أنها نشرت أنظمة رادار ودفاع صاروخي متطوِّرة، قادرة على استهداف مقاتلات وصواريخ وسفن، مقابل كاسحة واحدة فقط لواشنطن، فضلاً عن البعثات العلمية الروسية المقيمة بالمنطقة.
كذلك صنَّفت موسكو الناتو في العام 2013 تهديداً رئيسياً للأمن القومي الروسي في القطب الشمالي، معتبرةً الاستعداد لمواجهته “أولوية قصوى”، كما أدرجت ضرورة حماية الموارد الطبيعية في القطب الشمالي في العقيدة العسكرية الروسية، وعززت وجودها العسكري بإنشاء القيادة الإستراتيجية الشمالية.
ورغم انشغال روسيا وجيشها بالحرب في أوكرانيا لم يكن غريباً الزيارة التفقّدي لوزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، إلى حاميات القطب الشمالي النائية التابعة للأسطول الشمالي الروسي، حيث حلّقت طائرته فوق حقل التدريب المركزي الروسي في أرخبيل نوفايا زيمليا، مع رئيس شركة “روساتوم”، أليكسي ليكاتشيف، وفحص شويغو خلالها تنظيم الأنشطة الرسمية، وإنجاز مهام الوحدات المتمركزة في نوفايا زيمليا، بما في ذلك استعدادها لحماية المنشآت ذات الأهمية الخاصة والدفاع عنها.
أما الصين الحليف الأساسي لروسيا فقد وصفت نفسها بأنها “دولة شبه قطبية شمالية”، وأوضحت أن المنطقة “ليست ضمن الحدود الإقليمية للدول المشاطئة للمحيط، لأنها ملك الإنسانية جمعاء”، كما وقَّعت على عدة صفقات مع روسيا حول التنمية المتكاملة لتلك المنطقة، بالإضافة إلى بناء أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية في القطب الشمالي في 2020.