رقمنة البشرية وألواح الأقدار الالكترونية
غالية خوجة
ماذا نتوقع في عصر البراكين الالكترونية والكوارث التكنولوجية؟ لكل عصر من العصور إيجابياته وسلبياته، ونعتقد معاً بأن عصرنا الالكتروني من أخطر العصور التي تمر على الأرض، لأسباب عديدة أهمها ومحورها فقدان البشرية لأنسنتها وقيمها الأساسية العابرة للزمكانية مثل المحبة والصدق والاحترام والانتماء والأمانة والوفاء والسلام الداخلي والسلام العام.
ولم تكن العولمة سوى العتبة للدخول إلى هذه البوابة التكنولوجية التي حولت الناس إلى أرقام ورقمنتهم الكترونياً، لنصل إلى البوابة الثانية التي برمجتهم كيف تشاء أهواء القائمين على هذه البراكين الالكترونية، ولرُبّ متسائل مثلي: وهل يستطيع أحد ما أن يتحكّم بأحد ما إلى هذا الحد؟
ولرُبّ مجيب: هناك نقص عام ملحوظ في الوعي والإرادة البشريتين على كوكبنا الأرضي، ولذلك، هناك من يعمل على تفعيل السلبيات بكثافة بعدما يستلب الوعي الفردي والجمعي القطيعي والإرادة استلاباً يساهم فيه المستلَب أيضاً، لأنه بإرادته اللاواعية ينجذب إلى من يغسلون دماغه وقيمه وإنسانيته بطريقتهم الأشبه بالتنويم المغناطيسي لأنه يدرسون حالته النفسية والاجتماعية دراسة عميقة، سواء على صعيد الفرد، أو المجتمع، أو شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، وذلك من قبل لجان مختصة جداً، من أجل تحقيق الأهداف القريبة والبعيدة، وهي تلبية هذه الحاجات للسيطرة التكنولوجية على العقول والأشخاص والشعوب سيطرة مطلقة وبإرادة متفاعلة من قبل المسيطَر عليه وعليهم!
أما الطرف القليل العدد المسيطر على الغالبية فيتمتع بدهاء يجعل المتفاعل يذعن ويخضع دون تفكير، فقط، لأنه يجد هذه القلة تؤمن له رغباته وغرائزه واحتياجاته إلى أن تتمكّن منه، وتزيده بعد ذلك لكي لا يجد مفراً للخروج منها، فيغوص أكثر إلى أن يغرق دون أن يعلم أنه الغريق، بل يحسب ذاته المنقذ والبحر والفضاء!
وتمثيلاً، وأنا أكتب هذه المقالة، يعترض برنامج “وورد” على كتابتي للغتي، فيضع لي خطاً تحت “لكي لا”، ويطلب تصحيحها إلى الخطأ الشائع “لكيلا”!، لكنني أتجاهله، لأنني أعلم منه بلغتي العربية المقدسة، وهذا المثال ينطبق على الشبكة الالكترونية العنكبوتية بكافة وسائلها ووسائطها وبرامجها، وطبعاً “إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون”، وهذا البيت الالكتروني يجذب ضحاياه لخيوطه في طريق بلا رجعة، أي كما تقولوا الحكايات التراثية الشعبية الخرافية التي سمعناها من آبائنا وأمهاتنا “درب الصد ما ردّ واللي أخد ما جاب”.
ومن تفكيك آخر للبنية العميقة اللا الملموسة واللا المرئية واللا مسموعة، يصرّ الهادفون على المستهدَفين أن يظلوا في هذه الدرب المحبوكة بخيوطهم اللزجة حتى الموت، ليجسدوا الأساطير والملاحم القديمة بطريقة معاصرة، خصوصاً، أنهم يعملون برأيهم على “ألواح الأقدار”، تلك التي من يستطيع أن يمتلكها يستطيع السيطرة على العالم، وكم من آلهة أسطورية تنافست لتمتلكها وأقامت الحروب ودمرت وقتلت وسلبت ونهبت بحجة هذه الألواح!
وبنظرة أخرى من المعنى الإنساني للمعنى الإنساني، لم يكن الشعراء والفلاسفة والعلماء والعارفون يتوقعون يوماً أن يصبح الفضاء الالكتروني معبداً سلبياً سالباً، لأنهم كانوا يتوقعون التطور الإيجابي والجميل والجمالي لبني جنسهم الإنسان، ولهذه البشرية، لأن قيمهم كانت متأصلة في ثباتها عبْر الأزمنة والأمكنة، وقضوا أعمارهم في البحث عن “أنسنة الإنسان” بعيداً عن الميثولوجيا القائلة بثلاثة أثلاث: “ثلث حيواني، وثلث سفلي، وثلث إلهي”، ليقتربوا من الفطرة الجوهرية لبني البشر، وليكون الإنسان أكثر حضارية مع مرور الأزمنة والعصور، لا أن يتراجع الإنسان، فيصبح مسيّراً ليأجوج ومأجوج التكنولوجيا، بل، له مع هذا العصر المتطور أن يوظف قيمه ووعيه وإرادته بإيجابية جمالية، تجعله سيدَ نفسه أولاً، فيستعيد الجانب المضيء من إنسانيته لتتطور الأرض وساكنيها، ويكون بذلك داحضاً للجانب التكنولوجي المظلم، فلا يسيطر عليه الإعتام وهذا أضعف الإيمان.