بعد عامين من الانسحاب… استمرار عواقب الاحتلال الأمريكي لأفغانستان
عناية ناصر
خلّف الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، الذي بدأ في عام 2001 واستمر حتى عام 2021، وراءه آثاراً لا تزال باقية، فالدمار الذي عانت منه أفغانستان على الصعيد الوطني وعدم الاستقرار المستمر حتى يومنا هذا بعد انسحاب الولايات المتحدة يذكرنا بالدمار والبؤس الذي أعقب انسحاب الولايات المتحدة من جنوب شرق آسيا في السبعينيات بعد ما يقرب من عقدين من الحرب هناك.
وحتى بعد فترة طويلة من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، لا تزال البلاد تكافح من أجل النهوض ومحاولة استجماع قوتها، ويعود هذا جزئياً إلى الخسائر الفادحة في الأرواح والدمار الذي تسببت فيه الولايات المتحدة، كما يعود أيضاً إلى الجهود المتعمدة والخبيثة للغاية التي تبذلها واشنطن التي ترفض السماح للشعب الأفغاني بالمضي قدماً في حياته وأمته وموارده وفقاً لما يقرره بنفسه.
خلّف الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستان ما يصل إلى 43 ألف قتيل مدني والعديد من الجرحى، وفقاً لما ذكرته شبكة “إيه بي سي نيوز” نقلاً عن مشروع جامعة “براون” الذي يدرس الصراع. والأسوأ من ذلك، أن القوات الأمريكية وقادتها نادراً ما كانوا يتحملون المسؤولية عن هذه الوفيات المدنية، وفقاً للجنرال المتقاعد دوغلاس لوت الذي شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض من 2007-2013.
في أحسن الأحوال، لم يقدم هذا أي حافز على الإطلاق لتغيير طبيعة العمليات العسكرية الأمريكية في الدولة التي احتلتها، وفي أسوأ الأحوال شجع على ثقافة الإفلات من العقاب، وقد استمر هذا حتى نهاية الاحتلال الأمريكي.
لقد تسببت الغارة الأمريكية بطائرة بدون طيار في 29 آب 2021، وسط الانسحاب الأمريكي، بمقتل 10 أشخاص، وكانوا جميعهم من المدنيين ومن بينهم سبعة أطفال. لم تكن الضربة الفاشلة بطائرة دون طيار مثالاً على عبثية الاحتلال العسكري الأمريكي فحسب، بل أيضاً على الإفلات من العقاب الذي تمتع به. وفي هذا الإطار أكدت صحيفة ” نيويورك تايمز “في مقال نشر في كانون الأول 2021 بعنوان “لن تتم معاقبة أية قوات أمريكية على الضربة القاتلة في كابو ، حيث يقرر رئيس البنتاغون” مرة أخرى أنه لن يتحمل أي شخص المسؤولية عن القتل غير المبرر للمدنيين على بعد آلاف الأميال من شواطئ الولايات المتحدة في دولة لا تشكل بأي شكل من الأشكال تهديداً للولايات المتحدة.
لم تقم الولايات المتحدة بقتل المدنيين الأفغان فقط، بل إنها قامت أيضاً بتدمير البنية التحتية الموجودة في الدولة والتي مزقتها الحرب، حيث تضمنت الإطاحة الأولى بطالبان في عام 2001 تدمير البنية التحتية للبلاد على مستوى البلاد، والتي كان من المقرر أن يتبعها “إعادة إعمار” بقيادة الولايات المتحدة.
لقد كانت خطط واشنطن “لإعادة الإعمار” لا تزيد عن مجرد مخطط غسيل أموال بمليارات الدولارات. وحتى أن المنفذ الإعلامي “صوت أمريكا” الذي تموله الحكومة الأمريكية اعترف بأن مليارات الدولارات أهدرت على مشاريع البنية التحتية التي لم تكن مرغوبة أو حتى مطلوبة، حيث تم منح المشاريع للمقاولين الذين لم يهتموا بما إذا كانت ممكنة أو ضرورية أم لا. تم بذل القليل من الجهود أو لم يتم بذل أي جهد لضمان استدامة المشاريع بعد اكتمال البناء. لقد كان هدف المشاركين في “إعادة إعمار” أفغانستان هو ببساطة جني أكبر قدر ممكن من المال بأقل قدر من الجهد المطلوب، لكن لم يقتصر الأمر على أن الاحتلال الأمريكي أدى إلى تدمير أفغانستان من دون بذل أي جهود حقيقية لإعادة الإعمار، بل إن عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي وخلفه وراءه يعيق أيضاً عملية إعادة الإعمار حتى يومنا هذا.
كما تستفيد الجماعات المتطرفة مثل “داعش” أو حركة تركستان الشرقية، وهما جماعتان متشددتان، من الحروب بالوكالة الأمريكية والحركات الانفصالية التي تستهدف دولاً ومناطق من ليبيا وسورية إلى غرب الصين، كما وتعمل هذه الجماعات أيضاً في أفغانستان، من خلال شن الهجمات الإرهابية التي تمنع الوحدة الوطنية وأي نوع من الاستثمار الأجنبي واسع النطاق بما في ذلك الاستثمار المطلوب لإعادة الإعمار.
ولعل الأمر الأكثر تعمداً على الإطلاق هو قيام الولايات المتحدة باحتجاز المليارات من أصول البنك المركزي الأفغاني، الأمر الذي يحرم أفغانستان من الموارد المالية اللازمة للبقاء والتعافي من الأضرار التي سببتها الولايات المتحدة. وحتى بعد مغادرة آخر جندي أمريكي رسمياً الأراضي الأفغانية، ستستمر الولايات المتحدة في إيذاء الأفغان وإلحاق الضرر بأفغانستان بشكل غير مباشر من خلال الوكلاء المتطرفين. كما ستستمر الولايات المتحدة في استغلال الشعب الأفغاني من خلال حجب أصول البنك المركزي الأفغاني وتصفية ما تبقى من خلال نظام الفساد الذي خلقته الولايات المتحدة، وغسل المليارات خلال احتلالها الذي دام 20 عاماً. من خلال القيام بذلك، ستستمر الولايات المتحدة في زعزعة استقرار أفغانستان واستخدام عدم الاستقرار الناتج عن ذلك لثني الدول الأخرى عن التدخل ومحاولة تزويد البلاد بالفرص التي حرمتها الولايات المتحدة منها خلال 20 عاماً من الحرب.
كثيراً ما تتحدث الولايات المتحدة عن “الدروس المستفادة” من حروبها العدوانية العديدة في مختلف أنحاء العالم، ولكن وكما أتثبت أفغانستان، بعد فترة طويلة من “نهاية” هذه الحروب، فإن الظلم الكامن الذي أدى إلى اندلاعها مازال قائماً. إن “الدرس المستفاد” الوحيد هو أن الولايات المتحدة ترفض التعلم من أخطائها، ربما لأن هذه الحروب العدوانية لا تعتبر “أخطاء” على الإطلاق، بل إنها ببساطة تعبير عن سياسة خارجية غير عادلة وغير نادمة في الأساس على القيام بها. إن مثل هذه السياسة الخارجية لا تشكل تهديداً بالنسبة للدول التي استهدفتها واشنطن فحسب ، بل أيضاً بالنسبة للعديد من الدول الأخرى التي لا تزال على رادار واشنطن.