“البريكس”.. إعادة تشكيل ديناميكيات النظام الدولي
عناية ناصر
في المشهد الجيوسياسي المتغير باستمرار، برز صعود الدول النامية على مدى العقود الثلاثة الماضية كقوة أعادت تشكيل ديناميكيات النظام العالمي الدولي. ويمكن إرجاع هذا الصعود إلى التغيرات الاقتصادية والسياسية التي حدثت في التسعينيات، ففي أعقاب الحرب الباردة، أصبح التحرير وإلغاء القيود والإصلاحات الموجهة نحو السوق هو الاتجاه السائد في جميع أنحاء العالم . ونتيجة لهذه التغيرات، تم إطلاق إمكانات النمو الهائلة في الجنوب العالمي، مما جعل دول الجنوب العالمي كلاعبين جيوسياسيين واقتصاديين عالميين مهمين.
وفي هذا السياق تم تشكيل عدد من المنظمات المصغرة أو اضطرت إلى الإصلاح، ومن الأمثلة على ذلك مجموعة العشرين التي كانت بمثابة ما يسمى بالوسيلة للأسواق الناشئة الرئيسية في الجنوب العالمي كي تستمع إليها دول مجموعة السبع . وكان في مقدمة التحول إنشاء مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وهي المجموعة التي تحدت على مدى العقد الماضي الحكمة التقليدية، وأعاقت التحالفات الجيوسياسية والاقتصادية التقليدية، مما دفع مجموعة البريكس إلى طليعة الشؤون السياسية والاقتصادية والبيئية والمالية العالمية.
تم تأسيس مجموعة” البريكس” في عام 2006 عندما التقى وزراء خارجية البرازيل وروسيا والهند والصين في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم انعقد أول اجتماع رسمي لمجموعة البريكس في روسيا في عام 2009، ومن ثم انضمت جنوب أفريقيا إلى المجموعة في عام 2010، وبالتالي غيرت الاسم المختصر من” بريك” إلى “بريكس”. وقد تمت دعوة جنوب أفريقيا على وجه التحديد للانضمام إلى المجموعة لإعطاء دفع لروح البريكس باعتبارها صوت أقوى لدول الجنوب.
كان السبب الرئيسي وراء إنشاء البريكس هو الرؤية المشتركة لما يعتبر اقتصادات الأسواق الناشئة في الجنوب العالمي، حيث يمكنها من خلال صوتها الجماعي وعملها المنسق التأثير بشكل كبير على الشؤون الاقتصادية لتشمل أصوات الجنوب العالمي نظراً إلى قوتها وإمكاناتها الاقتصادية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، لم يكن هناك أي تغيير في الحوكمة العالمية وأنظمة ومؤسسات البنية الاقتصادية والتجارية والمالية التي تم إنشاؤها مثل الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز.
لقد وفر إنشاء مجموعة البريكس منصة للدول المنضوية تحت رايتها لتعزيز نفوذها الاقتصادي والضغط من أجل إصلاح اقتصادي ومالي أكثر إنصافاً وشمولاً، كما وضعت مجموعة البريكس أيضاً إصلاح هيكل الحوكمة العالمية كهدف لها،”الأمم المتحدة ومؤسساتها ولجانها ومنظماتها”. تواصل مجموعة البريكس، من خلال تسخير قوتها الجماعية والاستفادة من المصالح المشتركة، تحدي هيمنة القوى التقليدية، وتعزيز التعددية القطبية، والدعوة إلى نظام سياسي واقتصادي ومالي عالمي أكثر عدالة.
وبينما تقوم دول الريكس بحملات نشطة من أجل إصلاح الهيكل المالي العالمي، عملت أيضاً على إنشاء مبادرات مثل “بنك التنمية الجديد”، وترتيب احتياطي الطوارئ، ومناقشة عملة مجموعة البريكس للتنافس واستكمال آليات وأدوات التجارة والتمويل العالمية القائمة والتقليدي. وعلى هذا فقد رسمت مجموعة البريكس مساراً جديداً للتنمية المالية والاقتصادية والحوكمة العالمية، مع التركيز على العدالة والرخاء المشترك.
في حين أن الهدف الأساسي لمجموعة البريكس لا يزال قائماً، تطور أيضاً تركيزها حيث أصبح المشهد الجيوسياسي والاقتصادي اليوم أكثر مرونة وتحدياً وتعقيداً مما كان عليه قبل أكثر من عقد من الزمن عندما تم إنشاء البريكس.
إضافة إلى أن التحالفات الإقليمية والجيوسياسية، هناك تحول جيوسياسي هادئ ولكن تكتوني يحدث داخل الشرق الأوسط حيث بدأت السعودية عمليات السلام مع كل من إيران وسورية والتي تم تسهيلها من قبل الصين وروسيا. ومن ناحية أخرى، خلفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا أصداء عالمية، فتسببت في أضرار لا توصف ليس فقط للبلدين، بل للجنوب العالمي الأوسع، فضلاً عن خلق نقص في الغذاء والطاقة. وفي هذا الإطار تعرضت دول الجنوب العالمي للترهيب من قِبَل الشمال لحملها على اختيار أحد الجانبين ، وهو الموقف الذي رفضته أغلب بلدان الجنوب العالمي. وبدلاً من ذلك، فإن الموقف الذي يبدو أنه يكتسب زخما ًبين بلدان الجنوب العالمي هو موقف عدم الانحياز، كما كانت الحال خلال حقبة الحرب الباردة.
هناك هجمات مستمرة على الشركاء في مجموعة البريكس، الصين وروسيا، من قبل دول الشمال، وكذلك من قبل التحالفات والمنظمات الغربية مثل الناتو ومجموعة السبع، حيث استخدموا تكتيكات الحرب التقليدية وغير التقليدية مثل العقوبات، وحروب العملات، والحروب بالوكالة، والجهات الفاعلة غير الحكومية. لقد كانت الصين وروسيا ضحيتين لإستراتيجية “الضغط والاستفزاز” التي تنتهجها بعض الدول والتحالفات الغربية، وكان الهجوم الأخير ضدها في اجتماع مجموعة السبع في أيار من هذا العام من قبل أحد أعضائها الرئيسيين عبارة عن تهديدات مخفية ضد الصين، ورأى بعض المحللين أن هذا الاجتماع كان بمثابة إعلان لحرب باردة جديدة بين مجموعة السبع والصين.