التطبيع الثقافي.. احتلال للعقل العربي
د. معن منيف سليمان
يعدّ التطبيع الثقافي وسيلة لاحتلال عقل المواطن العربي، والتأثير على قناعاته، وتوجهاته السياسية، وميوله الثقافية بما يتوافق والرواية الصهيونية حول أسباب قيام “إسرائيل” وظروف نشأتها، وتسويغ مزاعمها بأن فلسطين هي الوطن القومي لليهود، والتنكر للحقوق المشروعة للفلسطينيين وانتزاع فلسطين من عمقها العربي، ما يسهم في استئصال مناعة الأجيال القادمة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، وجميع مشاريع السيطرة الاستعمارية الجديدة، وإنهاء حالة المقاطعة بكل أشكالها السياسية، والاقتصادية، والثقافية للكيان الصهيوني، وتحويل علاقاتنا معه إلى علاقة طبيعية. وبذلك، تحقّق “إسرائيل”، من خلال التطبيع الثقافي، وبتكلفة تكاد تكون معدومة، ما عجزت عنه في كلّ حروبها السابقة.
يراهن المشروع الصهيوني من أجل استمراريته على الإضعاف الممنهج لرابط الانتماء لدى الجيل الجديد من الشباب العربي عامة والفلسطيني خاصة، وذلك من خلال وسائل تطبيعية تدفع الشباب العربي إلى الاعتراف ضمناً بوجود الكيان الإسرائيلي. ولعلّ أخطر هذه الوسائل هي تلك التي تأخذ شكلاً علمياً أو ثقافياً بعيداً عن الشكل السياسي المباشر، ما يوفّر لها مدخلاً للتأثير على بعض الشباب العربي.
وهذا النوع ربما يعدّ الحلقة الأشدّ خطورة في إعادة العلاقات بين الدول إلى حالتها الطبيعية، لارتباط الثقافة بالضمير الجمعي للشعوب، فمن الثقافة تتشكّل مواقف الناس ورؤيتهم للعلاقات، ومواقفهم إزاء القضايا المشتركة، ومن هنا تلجأ الدول إلى نشر ثقافتها والتأثير في ثقافات الدول والشعوب الأخرى قصداً من أجل استمالة الشعوب المستهدفة في التطبيع، وردم الفجوات السياسية بين الشعوب.
وبالتالي يعدّ التطبيع الثقافي أحد أهم مداخل التطبيع بالنسبة للعدو الصهيوني الذي يشمل الاعتراف العربي بالهوية الإسرائيلية من خلال افتتاح مراكز ثقافية إسرائيلية في الدولة المطبِّعة، ومشاركة “إسرائيل” في الفعاليات الثقافية المختلفة: مهرجانات موسيقية وسينمائية ومسرحية، معارض الكتب، بل وفي إنتاج أعمال فنية مشتركة كالمسلسلات التلفزيونية على سبيل المثال الذي قد يصل حدّ التأثير في المناهج التعليمية، كذلك من خلال المبادرات الرياضية، أو من خلال التأثر بالبروباغندا الإسرائيلية التي تشيد بليبرالية “إسرائيل” وديمقراطيتها.
ويهدف التطبيع الثقافي إلى تغيير البنية الثقافية للشعوب العربية، وتهيئتها سياسياً لتقبل سيطرة الكيان الإسرائيلي، والتركيز على تطبيع الشعوب، وتكثيف الزيارات والرحلات السياحية والتعامل التجاري، وفتح معاهد تدريس ما يُسمّى “اللغة العبرية” تجاوزاً، وإقامة الدورات التثقيفية المشتركة، والتبادل العلمي، والتواصل الإعلامي، بغرض إذابة الحواجز بينهم وبين الشعوب العربية، لأنها المعيق الأول لتطلعاتهم الاستراتيجية.
وتُعدّ النشاطات المتعارف عليها بالفنيَّة من أوسع نوافذ التطبيع الثقافيّ مع العدوّ الصهيونيّ والأكثر انتشاراً، وقد لا تكون الإذاعات الإسرائيليّة الناطقة بالعربيَّة بعيدة عن النشاطات التطبيعيّة. فقد لجأ الاحتلال في الماضي إلى توظيف وسائط إعلاميَّة عن بُعد لمخاطبة العالم العربيّ، فاقتطعت “صوت إسرائيل” بالعربيَّة حصَّة من الاستماع، ثمّ اضمحلَّت مع صعود الفضائيَّات الإخباريَّة العربيَّة التي حاول الاحتلال محاكاتها بقنوات مرئيَّة دون جدوى.
ولا يدّخر الكيان الصهيونيّ جهداً في محاولاته المستمرَّة والمستميتة في جذب الشباب العربيّ وتبديل الحقائق وتزييف التاريخ. ومع السدود التي تقيمها الجهات الرسميَّة لصدِّ أفكارهم المشوَّهة، بدأ الكيان الصهيونيّ العمل لاستغلال الفضاء الإلكترونيّ بأشكاله كافَّة، وعلى رأسه مواقع التواصل الاجتماعيّ الشهيرة “فيسبوك” و”تويتر”، لتصبح “السوشيال ميديا” ميداناً جديداً للكيان لاستقطاب الشباب العربيّ، والضغط على القضيَّة الفلسطينيّة، وترسيخ أكاذيبهم في المواقف الخاصَّة كافَّة بمنطقة الشرق الأوسط، في خطواتٍ يمكن تسميتها بـ”التطبيع الإلكترونيّ”، الذي بدأ في جني ثماره والإيقاع بالكثير من الشباب العربيّ، وسط غيابٍ كاملٍ للردِّ العربيّ أو المواجهة الفكريَّة.
ومن جملة ذلك أيضاً انخراط فئات ونخب فنيّة وثقافيّة وأكاديميّة في التطبيع تحت ذرائع فنيّة وثقافيّة، وهو في جوهره عمالةٌ وتواطؤٌ مثل انخراط بعض الفنانين العرب لا مجال لذكرهم في التطبيع الذين زاروا الأراضي المحتلة وأقاموا حفلات في ظلِّ الاحتلال الصهيونيّ.
ويمكن الإشارة إلى العديد من الشواهد التي تؤكّد سريان التطبيع إلى بعض النخب السياسية والثقافية، ومن ذلك أن هذا التطبيع الثقافي بين العرب والإسرائيليين يستهدف مفردات قاموس خطابهم السياسي والثقافي، بدليل صار يُقال “إعادة الانتشار” بدلاً من “الانسحاب أو جلاء الاحتلال”، و”وقف الاستيطان” بدلاً من إزالة الاستيطان”، ولم نعد نستخدم كلمة العدو الصهيوني، وتردّد ألسنتنا دون وعي، الأسماء الإسرائيلية لكثير من الأماكن العربية، ومن يدري أي صفات بدل “العدو” سنطلقها على “إسرائيل” في وقت لاحق.
إنْ كان هذا معنى التطبيع الثقافيّ، كما يفهمه العدوّ الصهيونيّ، فإنَّ مشروع السيطرة الثقافيَّة الصهيونيَّة على المحيط، أي مشروع فرض الرواية والرؤية الصهيونيَّة على عقول العرب وقلوبهم، بات يقتضي أوَّلاً تذليل العقبات الثقافيَّة وتقبُّل السيطرة الصهيونيَّة والاحتلال الصهيوني في فلسطين، أي التغلُّب على المقاومة. وثانياً إعادة تشكيل المنطقة ثقافيّاً كوعاء قادر على تعزيز عناصر قوَّة المشروع الصهيونيّ، أي التغلُّب على المقاومة والممانعة الثقافيَّة العربيَّة، وهذا يثبت أنَّ مشروع التطبيع هو في الحقيقة مشروع سيطرة ليس أكثر.