ثقافةصحيفة البعث

كيف تشكلت اللغة وصوتها اللوني مع “آفاق الحرف العربي”؟

حلب – غالية خوجة

تتمتّع اللغة العربية بجماليات فنية تشكيلية تتصف بالمرونة والعمق، فما بين خط وحرف ولون ترتسم مساحات دلالية متنوعة تتحرك بين كتلة اللوحة وفراغها، وما على المتلقي سوى التقاط مروياتها وهي تتمايل بين صمت وصوت وسكون وأحداث ومشاهد قد تحكي عن سيرة إنسان ما، أو مجتمع ما، أو زمنية ما، أو تذكّرنا بمواقف، أو تجعلنا نتشافف مع تفكيرها، وهي تجول بين إيقاع حروفي وهدوء تأملي، خصوصاً، عندما تتألف اللوحة من آيات من القرآن الكريم، أو قصائد، أو كلمات لا تكتمل معزوفتها إلاّ من خلال تضاريس التشكّلات اللونية.

العربية جاذبية الروح

وتهتمّ الأعمال التشكيلية للفنانين السوريين، ومنهم الحلبية، بثيمة الحروفية والخط العربي، لأنها الثيمة الأكثر جاذبية للروح والانتماء والهوية، فلا بدّ أن تحضر أعمال تشكيلية حروفية في كل معرض يُقام في حلب، وهناك من المؤسّسين القدامى الذين جعلوا من اللغة العربية فضاء لجماليات الألوان وإيماءاتها وبنيتها، وهناك من المعاصرين الذين يجربون صياغة ملامح خاصة لحروفيتهم وألوانها، ونذكر منهم تمثيلاً كلاً من الفنانين محسن خانجي وتجريداته الحروفية وتكويناته الكونية، وخلدون الأحمد والرسم بالحرف والكلمة، وأحمد قاسم الذي يقدّم لنا تجربته الفنية الحروفية من خلال 33 لوحة، في معرض “آفاق الحرف العربي” الممتد لأسبوع في صالة الأسد للفنون الجميلة، المقام تشاركياً بين اتحاد الفنانين التشكيليين ومديرية الثقافة وجمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية، والذي قال لـ”البعث” عن تجربته يوسف مولوي رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين بحلب: تجربة تتمتّع بتناغم جميل مع المحافظة على جودة ودقة وجمال الحرف العربي بتشكيل معاصر، فكيف قدم الفنان تجربته في هذا المعرض؟.

رموز لونية وتشكيلات دلالية

تتسم أعمال أحمد قاسم باهتمامه في التداخل بين اللغة وصوتها اللوني وتعابيرها المختلفة التي تتناغم فيها أحاسيس الكلمة قدر الإمكان مع أحاسيس الفنان ومشاعر اللون، لعلّه يرسم الدلالة والمعنى وما يجول في أعماقه من حالة روحانية تتجلّى في الآيات القرآنية الكريمة، فتشرق تارة بألوانها الذهبية والحمراء والبيضاء والزرقاء وتدرجاتها السابحة في بحيرة من الإيقاعات الجوانية، لتظلّ وكأنها معلقة بين الغيوم والفضاء، مثل لوحته “وجعلنا بينكم مودة ورحمة”، فيشعر المتلقي بأنها حالة تجمع الفرح والتماسك واللطف يؤديها حرف الواو بلونه الأزرق الحاضن لبقية الحروف، بينما نرى في لوحته سورة “الفاتحة” كيف تضمّ كلمة “الحمد لله” بلونها المذهب المتواشج مع الأبيض المضيء اتساعاً يموج بين الأرض والسماء والحروف الصاعدة مع الكلمات انطلاقاً من حرف “ميم” الحمد، مشكّلة عموداً واحداً ينفصل عند آية “غير المغضوب عليهم” ليكون في جهة كلامية أخرى من اللوحة التي تتحرك خلفيتها مع حروف وكلمات أخرى بلون أبيض على خلفية سوداء، إلاّ أن المعنى اللوني يتمحور في مركز اللوحة بين نقطة “كن” ونقطة باء “البسملة” بلونها الأحمر الدافئ المتفتح مع حركات لفظ الجلالة وزخرفتها الزرقاء.

وتبدو مراحل القمر وأهلته بشعاعها الفضي حاضرة في الأعمال مع ما ترمز إليه، سواء من خلال مقولات الحكمة أو الأبيات الشعرية، مثل بيت شعري للمتنبي “حلب قصدنا وأنت السبيل” والذي يبرز بلون أسود كجملة موسيقية وتبدو خلفيته قلعة حلب المضاءة بالشمس.

ومن منظور آخر، نشاهد كيف تشير التقليدية الكلاسيكية الخطية في بعض اللوحات مثل لوحة “وقل رب زدني علماً” المعتمدة على تدرجات البني وإشراقاته لكن بإيقاع نفسي واحد لأنه رسم الكلمات دون أن تشرق منها تدرجات المعاني، وكذلك لوحة “وإذا مرضت فهو يشفينِ” التي اختار لكلماتها المشرقة خلفية مستطيلة سوداء تعكس اليأس والتشاؤم لا المرض، بينما محيطها المستطيل الثاني فيمنح الأمل بالشفاء.

التجويد اللوني الحروفي

وحايثت المعرض ندوة أدارها التشكيلي إبراهيم داود أمين سر اتحاد الفنانين التشكيليين بحلب، تحدث فيها الشيخ الدكتور محمود عكام مفتي حلب عن الحرف الملفوظ والمقروء ودور التجويد ونغمه، لافتاً إلى عبد الباسط عبد الصمد الذي جوّد الحرف ونغمه، معتبراً أن التجويد في الأعمال الفنية هو الخط المكتوب، وفي لوحات الفنان قاسم يبدو التجويد الخطي للحرف المكتوب فنياً نغمات تعكس مقاماً لائقاً بها، مثل الكلمات الحزينة التي تدلّ ألوانها وطريقة تشكيلها على الحزن وتدرجاته حسب اللون، وكذلك الأمل والتأمل، والتفكر من خلال الكلمة وأبعادها، سواء أكانت مكتوبة أم منشودة أو مرسومة بصرياً.

انبهر المستشرقون بتشكيلات العربية

بدوره، رأى الفنان الناقد فيصل تركماني أن الكتابة انطلقت من الحضارة السورية وأبجديتها الفينيقية، والرسم بهذه الأبجدية عرفته بلاد الشام التي كانت أول من وظّف الخط العربي فنياً بين التنسيق والتخطيط والزخرفة والتعشيق والأشكال الهندسية من مربع ومستطيل ومخمّس في المساجد والمدارس والبيوت والعمارات، ولم يفهم الأوربيون فننا الخطي إلاّ بعدما تأثر المستشرقون بحضارتنا العربية والإسلامية والشرقية بيئةً وأجواءً وألواناً ومواضيعَ، فانبهروا بفنياتها وتعلّموها مع اللغة العربية وقلدوها بطريقتهم، وهناك من تعامل مع الحرف ككتلة وليس كخط، فمثلاً حرف الألف كان كتلة تعني شجرة، ومن هؤلاء الفنانين تمثيلاً محمود جلال وسامي برهان.

حائر بين الخط والتشكيل

أمّا الفنان أحمد قاسم فأكد على ما أشار إليه الناقد تركماني بأنه حائر بين أن يكون فناناً تشكيلياً بالخط أو خطاطاً بفنيات التشكيل.