مجلة البعث الأسبوعية

عبد الله نفّاخ: بعض غلاة التّراثيين ينكرون الرّمزية في الشّعر الجاهلي

البعث الأسبوعية- نجوى صليبه

أمور كثيرة تجعل من الخوض في الشّعر الجاهلي وفنّيته أمراً ليس سهلاَ، ولا سيّما إن كان الموضوع خلافيّاً كـ “الرّمزية في الشّعر الجاهلي” الذي انبرى الأديب عبد الله نفّاخ لتقديم دراسة مختصرة يضعها بين يديّ بعض المهتمّين في المركز الثّقافي العربي بالمزّة، فمنذ البداية يوضّح: “الرّمزية في الشّعر الجاهلي” موضوع عميق دقيقٌ وخلافيّ، فما يزال قسم من غلاة التّراثيين ينكرها جملةً وتفصيلاً، وأحسب هذا عائداً إلى خلل في نفوسهم التي ألفت السّطحية وأحبّتها، وقد اكتسبوها من بيئاتهم أو من ضحالتهم الشّخصية، فأسقطوا ذلك على هذا الإرث الأدبي العظيم الذي ما يزال يراه كبار أهل الأدب أعلى أنماط أدبنا العربي وأكثرها رقيّاً، ولا شك في أنّ مفهوم الرّمزية الاصطلاحي لم يكن قد تشكّل بعد في الذّهنية العربيّة أيّامئذ، لكنّ المشتغلين في التّراث من أهل الذّوق والفقه والولوج إلى أعماق النّصوص متفقون على أنّ للرّمزية أثراً ما في أدب الجاهليين، وإن اختلفوا من بعد على درجة ظهور هذا الأثر وطريقته”.

ويعود نفّاخ بنا إلى الرّسوم التي رسمها من عاش في العصر الحجري ويقول: لو تأمّلنا هذه الرّسوم على جدران المغارات لوجدناها تنطق برمزية ليست كرمزية الحداثيين في عمقها ودلالتها، لكنّها آخر الأمر رمزيّة معيّنة، تتناسب وعقول أصحابها البدائيين، والعرب أصل البيان والفصاحة، ساكنو الوهاد والقفار، حيث تتجلى الطّبيعة في محسوساتها وفي مظاهرها الوجودية الكبرى، ولابدّ أن ينصبّ فيهم من المعاني والمشاعر ما لا ينصبّ عند من ألفوا المادّيّات وبهرج الحياة، ودخلت عقولهم ثقافات قد تحرف الفطرة عن طريق سلامتها”.

ويفرّق نفّاخ بين الرّمزية في الشّعر الجاهلي والأوروبي والحداثي العربي: “الرّمزية عند شعراء الجاهلية دونما شكّ ليست رمزية الأوروبيين المبنية على أسس ومفاهيم ثقافيّة وفكريّة، تلك التي بدأت تغزو أدبهم مقترنةً بالطّوفان الرّومانسي العارم الذي ساد بعد الثّورة الصّناعية وطغيان المادّة، وليست رمزيّة الحداثيين العرب التي كانت مزيجاً من الشّاعرية ومن استدعاء الثّقافات البائدة والحاضرة لتحميل النّص دلالات قد تثقله أحياناً سعياً في تعميقه، وأحياناً للهروب من مقصّ الرّقيب، بل هي رمزية شاعرية بسيطة تعتمد الحسّ أوّلاً وأخيراً، بل أحسبها لم تبلغ الإدراك عند أكثر من استعملوها أو إن ابتغينا الدّقة ظهرت في أشعارهم”، مضيفاً: “للحسّ قوّة تغلب قوّة الإدراك والعرب في فطريتهم خلال الجاهلية، وامتزاجهم الشّديد بالطّبيعة الآسرة، لقد كانت تتوهّج سرائرهم بما لا نجده في أشعار أحفادهم في العصرين الأمويّ والعبّاسي مثلاً، حتّى الرّمزية المقترنة بالصّنعة التي برزت أشدّ ما برزت عند أبي تمّام كانت رمزيّة فكريّة ظهر فيها أثر الفلسفات التي شاعت في عصره، وليست رمزية الحسّ الشّفاف المتوهّج التي عرفها الجاهليّون”.

“لمّ لم يبرز الحديث عن رمزية الجاهليين في كلام أكثر نقّاد العرب القدامى وكثير من المحدثين؟” سؤال يطرحه نفّاخ ويصفه بالملحّ، ويجيب عليه، متذكّراَ عالم عرفه، يقول: “أحسب شخصياً أنّ الإجابة تكمن في كلام عالم عرفته كان يوحي لطلّابه بقوله: “يا بنيّ هذا الجاهلي ليس في حياته إلّا خيمته وفرسه وغزواته، فلا تخرجه عن هذا الإطار البسيط”، وطبعاً هذا الرّأي واسع الانتشار وإن اختلفت سبل التّعريف عنه، أنّ الجاهلية عصر الظّلمات والبغي والفجور، وعليه لا بدّ أن ننزل عليه اللعنات ونغرقه بالتّجريم لنثبت صلاحنا، وهذه برأيي رؤية ساذجة، كما أنّي لأعجب ممّن ينظر إلى الشّعر الجاهلي بهذا التّسطّح، كيف يستطيع تفسير بيت امرئ القيس الشّهير الذي قاله بعد مصرع أبيه:

وليل كموج البحر أرخى سدوله  عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

وكيف سيتجنّب إسقاط حالة الشّاعر الشّعورية التي امتزج فيها الحزن على الوالد القتيل بالقلق ممّا تحمله الأيّام القادمة في تضاعيفها وإسقاط تلك الحالة على جوّ الليل في جوف الصّحراء الذي كان يلفّ الشّاعر ببروده، والألفاظ في وصف ذلك بالغة الصّراحة؟.

ويتابع نقّاخ: “لو ذهبنا نتقصّى عمق الشّعر الجاهلي وفنّيته الباذخة، فلن يتيسّر لنا إلّا بكثير من الجور أن نمتنع من الإقرار برمزية واضحة جليّة في مواطن كثيرة منه، ولعلّ من مظاهرها البسيطة ما نراه من تصوير الدّنيا موحشة كئيبة في المقدّمات الطّللية إن تكن القصيدة قصيدة رثاء، وبهيجة تضجّ بالحياة إن تكن القصيدة قصيدة مدح ينتظر قائلها جزاءه من ممدوحه، وهذه ظاهرة لا ينكرها قارئ متقصّ لشعر الجاهليين برزت مثلاً في معلّقة زهير بن أبي سلمى حين وصف الحياة في مقدّمته الطّللية:

بها العينن والآرام يمشين خلقة   وأطّلاؤها ينهض من كلّ مجثّم

أيّ صورة عامرة بالحياة تلك؟ أليس غريباً أن يكون الفضاء المكاني لهذه الصّورة العامرة بالتّجدد والإقبال على الكون بكلّ ما فيه هو الأطلال تلك الدّيار الخربة التي هجرها أهلها؟، والوقوف على الأطلال كان لازماً في مطلع القصائد فلم يشأ زهير أن يخرق اعتياديّته، لكنّه سخّره لغرضه المدحي إذ جعله محلاً لأجمل مظاهر الحياة الفائضة بالحركة المنتزعة من أجواء الغناء.. أليس هذا كلّه وجه من الوجوه رمزيّة شفيفة ورمزية آسرة وعذوبة من دون تصرّف عقلي مبالغ فيه؟

ويضرب عبد الله نفّاخ قصيدة “القوس العذراء” لصاحبها الشّمّاخ مثلاً كوسيلة لدراسة أثر الرّمز في الأدب الجاهلي، مستشهداً برأي أحد دارسيها، يقول: “لقد تعمّق الدّكتور وهب رومية في الولوج إلى عمق هذه القصيدة واستبطان رمزيتها في كتابه “شعرنا القديم والنّقد الجديد”، ويقول في تحليل رمزيتها: “وقد ربح القوّاس بعض هذا العالم أو رموزه، ربح الذّهب والمال والجلد الفاخر والثّياب النّفيسة، لكنّه خسر مبدأه وقيمه، فاكتشف أنّه خسر كلّ شيء لأنّه خسر نفسه، وأفاق من سقطة البطل المدمّرة، أو صحا من باطله على فجيعته، فتنازعه ندم قاس وحزن مرّ وشعور جارح بالضّياع، فحارب قوى النّفس التي انكسرت صلابتها وتهدّمت فأسلم أمره لطائر البكاء والحزن:

فلما شراها فاضت العين عبرةً   وفي الصّدر حزّاز من الوجد حامز”

ويتابع نفّاخ: “فإذا استقصينا غاية الاستقصاء كما قال الجاحظ ، يوماً، عن تاريخ شعر العرب في جاهليتهم في كتابه “الحيوان”، سنجد قصّة كثيرة الورود في أشعار الجاهليين هي قصّة الوحش الذي يرسل عليه البشر كلابهم لتصطاده، وهذا التّكرار الكثيف مع دلالة هذه القصّة الظّاهرة في الصّراع بين الحياة والموت شيء لا يمكن بحال تجاهل رمزيته، ومن أشهر الأبيات التي تصف قصّة حيوان الوحش أبيات معلّقة النّابغة الذّبياني، يقول:

فارتاع من صوت كلّاب فبات له   طوع الشّوامت من خوف ومن صرد

فبثّهنّ عليه واستمرّ به       صمع الكعوب بريئات من الحرد

وكان ضمران منه حيث يوزعه  طعن المُعارِك، عند المحجر النّجد

كأنّه، خارجا من جنب صفحته    سفّود شرب نسوه عند مفتأد

فظلّ يعجم أعلى الروق منقبضاً    في حالك اللون صدق غير ذي أود

لما رأى واشق إقعاص صاحبه   وأن لا سبيل إلى عقل ولا قود

قالت له النّفس، إني لا أرى طمعاً  وإنّ مولاك لم يسلم ولم يصد

ويحلل نفّاخ: “أهذه نفوس كلاب أم بشر تحتوي كلّ هذا التّعقيد الشّعوري؟ أليس هذا عند المتأمّل إسقاطاً لنفسية البشري على ذلك الكلب المفترس، في نوع ممّا نعرفه اصطلاحاً “المعادل الموضوعي”، أليست هذه الوقعة تصويراً رمزياً لصراع الإنسان مع قوى الكون المستأسدة عليه، ووصفاً لشهوانية وشراسة بعض البشر على بعض، فحيوان الوحش رمز لنمط من البشر والكب رمز لنمط آخر؟، مضيفاً: “من يتقصّ أحوال حيوان الوحش في القصيدة الجاهلية يجد وقعة الحيوان مع صيّاديه تختلف باختلاف غرض القصيدة وسيرورتها، وذلك يؤكّد أنّ الرّمزية عند الجاهليين كانت إلى قدر كبير غائية، يسيّرها غرض القصيدة وجوّها النّفسي وجوّ صاحبها.

وكما بدأ، ينهي عبد الله نفّاخ محاضرته بالتّنويه مجدداً بشمولية العنوان، يقول: “العنوان واسع وشامل، والحديث فيه يطول ولا يمكن أن تفي به محاضرة مختزلة، وإنّما أردت أن أكشف وأؤكد حضور الرّمزية بوضوح وجلاء في أدب عصر الجاهلية، وأن أبيّن أنّ رفعة الأدب الجاهلي الذي طالما سمعنا من أساتذتنا أنّه أعلى آداب العرب لغةً وفنّيةً لم تكن في جانب أو جانبين، بل لأنّه احتوى ما يكاد يكون اكتمالاً إبداعيّاً مدهشاً، قد يثير الاستغراب أو يخرج من أولئك الذي يبدون بسطاء في جزيرتهم، لكنّهم في الواقع استعانوا بعيشتهم الفطرية نسبياً وبحدّة جوارحهم وأحاسيسهم ليبنوا بنياناً أدبياً ما يزال يسطع ويتوهّج وتعاد قراءته على وجوه مختلفة بعد عشرات القرون”.